فأنت إذا تأملت جيداً في هذه القصة التي سردناها. علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متأثراً بالمحنة التي طافت على بيت جابر بن عبد الله. فقد استشهد والده في أحد. فقام هو - وهو أكبر أولاد أبيه - على شأن الأسرة ورعاية الأطفال الكثيرين الذين خلفهم له والده من ورائه. وهو على ذلك رقيق الحال ليس له نصيب وافر من الدنيا.
وكأنما استشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأخر جابر عن القوم بسبب جمله الضعيف الذي لا يمتلك غيره. مظهراً لحالته العامة هذه .. (وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم إذا سار مع صحبه في طريق. أن يتفقد أصحابه كلهم ويطمئن عليهم بين كل فترة وأخرى). فانتهزها فرصة وتخلف حتى التقى معه وراح يواسيه بأسلوبه الرقيق الفكه الذي رأيت، في طريق ليس معهما فيه ثالث.
عرض عليه صلى الله عليه وسلم شراء بعيره، وهو إنما يريد أن يجعل من ذلك ذريعة ومناسبة لإكرامه ومساعدته على وضعه الذي هو فيه. ثم سأله عن الزوجة والبيت. في أسلوب فكه رقيق، وراح يطمئن الزوج الجديد، أنهم إذا وصلوا قريباً من المدينة أقاموا ساعات هناك، حتى يتسامع أهل المدينة بمقدمهم، فتسمع زوجته، فتصلح له من شأنها، وتهيء له البيت بزينته ونمارقه. وينساق معه جابر في الأسلوب نفسه فيقول: والله يا رسول الله ما لنا من نمارق! ... فيجيبه عليه الصلاة والسلام قائلاً: إنها ستكون.
صورة رائعة، عن لطف معشره، وأنس حديثه، والفكاهة الحلوة في محاورته لأصحابه. ا. هـ.