الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهَا عَقْلًا، قَالُوا: لِأَنَّهَا دَافِعَةٌ لِلضَّرَرِ الْمَظْنُونِ وَهُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ (وَإِنَّمَا تَجِبُ) مَعْرِفَتُهُ تَعَالَى (بِالشَّرْعِ) نَصًّا (وَهُوَ بِعْثَةُ الرُّسُلِ) صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى مَعْرِفَةُ وُجُودِ ذَاتِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ، دُونَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَقْلًا لِأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْحَقَائِقِ، وَتَحْصُلُ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ شَرْعًا، وَالْعَقْلُ آلَةُ الْإِدْرَاكِ، فَبِهِ يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ.
وَأَوَّلُ نِعَمِ اللَّهِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَأَعْظَمُهَا وَأَنْفَعُهَا أَنْ أَقْدَرَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَوَّلُ نِعَمِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْحَيَاةُ الْعَرِيَّةُ عَنْ ضَرَرٍ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا (فَلَوْ مَاتَ الْإِنْسَانُ قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ: قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَهُ الدَّعْوَةُ (لَمْ يُقْطَعْ عَلَيْهِ بِالنَّارِ) بَلْ قَالَ ابْنُ حَمْدَانَ: لَا يُعَاقَبُ.
قَالَ فِي " الْفُنُونِ ": وَإِذَا مَنَعَ حَائِلُ الْبُعْدِ شُرُوطَ التَّكْلِيفِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ فِيمَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ وُلِدَ أَعْمَى أَبْكَمَ أَصَمَّ؛ لِعَدَمِ جَوَازِ إرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمَا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ بِالشَّرْعِ (لِآيَةِ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: ١٥] ؛ أَيْ: لَا يُعَذَّبُ فِيمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ إلَّا بِقِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَسْمَعْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا؛ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا، لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ حُجَّةِ السَّمْعِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قِصَّةُ أَهْلِ قُبَاءَ، حِينَ اسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوا.
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِفَرْضِ الصَّلَاةِ؛ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى النَّاسَ يُصَلُّونَ فِي الْمَسَاجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَذَلِكَ دُعَاءٌ إلَيْهِمَا.
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ.
(وَمَعْرِفَةُ اللَّهِ) تَعَالَى (أَوَّلُ وَاجِبٍ لِنَفْسِهِ، وَيَجِبُ قَبْلَهَا) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute