للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استعاروه من آسيا (ومن إفريقيا فيما بعد ومن باقي العالم عبر الاسكندريه) كانوا يعدون كل ما لا ينتمي للعالم الإغريقي وكل من لا يتكلم لغتهم برابرة، خالقين بذلك من هذه العزلة الاصطناعية الهائلة أسطورة المعجزة اليونانية (١).

ولكن الاتجاه إلى الاعتقاد بأن التاريخ يبدأ (بنا)، وبان الماضي لا يمكن ادراكه الا على أنه تحضير وانتظار لما سيحدث (لنا) ... لم يكن وفقاً على المسيحية وحدها، وذلك من سوء الطالع. نعم إن مثل هذا المفهوم للتاريخ المكتوب على انه تبشير بمستقبل جاهز منجز، يتيح لكل طرف أن يعد نفسه خاتمه للملحمة الإنسانية وغاية التاريخ وحدثاً فريداً ووحياً لا يأتيه الباطل. وبهذا المنظور يصبح كل (ماض) حدثاً عفى عليه الزمن ويكون كل ابداع جديد انحطاطاً ومروقاً!

ان العبريين وقد ادعوا لانفسهم الامتياز بالوعد وبانهم شعب الله المختار، واليونان باحتقارهم المتعالي (للبرابره) أى لكل ماليس يونانياً، والرومان بما لديهم من (عقدة) التفوق والامتياز ثم الكنيسة التي خلفتهم مدعية العالمية (الكاثوليكية)، وأولئك المسلمين الذين انغلقوا على خصوصيتهم ففسروا الآيه القرآنية ( .. خير أمة أخرجت للناس) لا على أنها دعوة والتزام بل على أنها امتياز مكتسب، وذلك بروح من الاكتفاء المتعجرف ... إن هؤلاء وأولئك كانوا يعدون أنفسهم محور العالم شأنهم شأن أباطرة الصين القديمة (٢).

ان الحوار الجاد بين الحضارات يعني أيضا وقف عمليات الاستيعاب والاستلحاق بين الحضارات، ويهدف إلى "عقلنة" سلوك الدول داخل هذه الحضارات، ومنع أو عرقلة استخدام الدول "القوة" لأغراض الهيمنة. وفي الوقت نفسه فإن الحوار بين الحضارات يسهم في تثبيت السمة الرئيسية للثقافات الإنسانية وهي استجابتها للتطور والاغتناء بالتفاعل فيما بينها، كما يسهم الحوار في "عقلنة" النزاعات التي قد تنشأ أثناء تثبيت الهويات الثقافية لهذه الحضارات، أو التي تتوالد في ظروف الأزمات الاقتصادية، نتيجة حدوث احتكاكات بين أبناء الحضارات المختلفة خلال موجات


(١) كيف نصنع المستقبل / روجيه جارودي - د. منى طلبه- ص٥٦
(٢) فلسطين ارض الرسالات السماوية - روجيه جارودي - ترجمة قصي اتاسي- ميشيل واكيم - ص١٤٠ - ١٤١

<<  <  ج: ص:  >  >>