للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

٢٥ - إن من لم يجد الماء ووجد النبيذ، فإنه يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ؛ وذلك لأن ظاهر الكتاب والسنة يدلان على أن الوضوء لا يجزئ إلا بالماء، ومن لم يجده تيمم بالصعيد الطيب.

ولأن ما ورد في الوضوء بالنبيذ كل طرقها فيها كلام، إما لضعف راو فيها، أو لجهالته، ولذلك جزم غير واحد من أهل العلم من المحدثين والفقهاء بضعف كل ما ورد فيه.

ولأنه إن صح خبر الوضوء بالنبيذ فيكون منسوخاً بآية التيمم؛ لأن ذلك كان بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة بلا خلاف، فتكون ناسخة له.

٢٦ - يجوز أن تصلى صلوات عديدة بوضوء واحد، ولا يجب الوضوء إلا من الحدث؛ وذلك لأن الأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة، تحتمل الوجوب، وتحتمل الندب والاستحباب، وحملها على الاستحباب أولى؛ بدلالة الأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات عديدة بوضوء واحد، وبذلك يُجمع بين هذه الأحاديث كلها، وما دام يمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها.

أما إن حملت الأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ لكل صلاة على الوجوب، فتكون منسوخة بالأحاديث التي فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات بوضوء واحد، كحديث سويد بن النعمان، وحديث بريدة، وعبد الله بن حنظلة-رضي الله عنهم-؛ حيث إنها متأخرة، ثم حديث عبد الله بن حنظلة - رضي الله عنه - صريح في ذلك؛ حيث ذكر فيه وضع الوضوء بعد الأمر به إلا من حدث.

٢٧ - يجوز ذكر الله تعالى بغير وضوء، وذلك: لورود أحاديث كثيرة صحيحة، تدل على جواز ذكر الله تعالى بغير وضوء، وقد نقل النووي إجماع الأمة على ذلك.

أما ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على كراهة ذكر الله بغير وضوء، بالأحاديث الدالة على الجواز، فإن له وجه؛ لأن حديث علقمة بن الفغواء يدل على ذلك، وهو وإن كان ضعيفاً إلا أن حديث ابن عباس يؤيده، وهما بمجموعهما يدلان على أن الوضوء إنما يلزم للصلاة خاصة

لا للذكر والطعام وما شابههما.

٢٨ - يستحب الوضوء للجنب إذا أراد النوم؛ وذلك لصحة الأحاديث في ذلك.

أما ادعاء نسخ ما يدل على استحباب الوضوء إذا أراد النوم فغير صحيح؛ لأن الأحاديث الواردة في المسألة ليس فيها ما يدل على أن بعضها ناسخ لبعضها، ثم الأحاديث الدالة على الوضوء للجنب إذا أراد النوم أقوى وأصح مما يخالفها؛ لخلوها عن أي كلام فيها، بخلاف ما يخالفها، فكيف يقال بنسخها بما لا يقاومها؟.

ولأنه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

٢٩ - يستحب الوضوء للجنب إذا أراد أن يعود للجماع، ولا بأس بتركه، وذلك لصحة الأحاديث في ذلك، وإمكان الجمع بين جميع الأحاديث الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.

كما أن الأحاديث الواردة في المسألة ليس فيها ما يدل على أن بعضها ناسخة لبعضها.

٣٠ - يستحب الوضوء مما مست النار ولا يجب إلا من لحم الجزور؛ وذلك لصحة الأحاديث في ذلك، وعدم معارضتها لأحاديث ترك الوضوء مما مست النار، وذلك بحملها على الخصوص.

لكن الأحاديث التي فيها الأمر بالوضوء مما مست النار، إن كان المراد بها الوجوب، فتكون منسوخة بالأحاديث التي تدل على ترك الوضوء منه؛ لتأخرها عليها، إلا لحم الإبل فإنه يجب الوضوء منه، وليس ذلك من المنسوخ؛ لأن الأمر بالوضوء منه جاء مع ترك الوضوء من لحم الغنم، وهو مما مست النار، فدل ذلك على تخصيص لحم الإبل من عموم ترك الوضوء مما مست النار.

٣١ - بعد عرض الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر، وفي الترك منه، يظهر لي والله أعلم بالصواب-أن حديث بسرة، وطلق-رضي الله عنهما-صحيحان، وأن الأحاديث الواردة في الوضوء من مس الذكر أقوى وأصح وأكثر من الأحاديث الواردة في ترك الوضوء منه.

لكن القول بنسخ حديث طلق - رضي الله عنه - بحديث بسرة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال؛ لأن النسخ لا يصار إليه إلا بتوقيف أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويُعلم مع ذلك المتأخر، والجمع هنا ممكن؛ وذلك بحمل حديث طلق -رضي الله عنه- على عدم وجوب الوضوء منه، وحمل حديث بسرة -رضي الله عنه- وما في معناه على استحباب الوضوء منه.

لكن العمل بحديث بسرة-رضي الله عنها- أولى؛ خروجاً من خلاف العلماء، وعملاً بالأحوط من أمر الدين، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».

٣٢ - إن مس المرأة لا ينقض الوضوء سواء كان لشهوة أم لغير شهوة؛ وذلك لإن قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}

يحتمل الجماع وما دونه، إلا أن الأحاديث التي جاء فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مس بعض أزواجه وقبلها ولم يتوضأ، تصلح أن تكون بياناً لمراد الآية، وأن لمس النساء ليس بناقض.

أما إن ادعاء نسخ الأحاديث الدالة على عدم نقض الوضوء بمس النساء بالآية الكريمة فغير صحيح، إذ ليس عليه أي دليل.

٣٣ - إن فرض الرجلين الغسل إذا لم يكن عليهما خف؛ وذلك لقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} سواء كانت الأرجل مخفوضة أو منصوبة، فإن المأمور به في الآية هو الغسل، ويؤكده تقييد الرجلين بالكعبين.

ولكثرة ما استُدل به لهذا القول مع صحتها وصراحة دلالتها على الغسل؛ حيث بلغت حد التواتر قولاً وفعلاً، وهي محكمة لا يتطرق إليها أي احتمال.

أما الأحاديث الواردة في المسح على القدمين، أو المسح على القدمين والنعلين، فإنها وردت بطرق وألفاظ مختلفة، وهي تفسر بعضها البعض، ويتبين من مجموعها أنه أطلق فيها على المسح على الخفين: المسح على القدمين، والمسح على الرجلين.

ثم على تقدير أن المراد بالمسح في هذه الأحاديث مسح الرجلين والقدمين المخلاتين عن الخفين، فتكون منسوخة؛ وذلك لتأخر آية المائدة، والأمر بإسباغ الوضوء بعد المسح على الرجلين، كما يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، ويؤيد ذلك قول هشيم أن المسح على القدمين كان في أول الإسلام.

٣٤ - يجوز المسح على الخفين؛ للأحاديث المروية في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله، وقد بلغت حد التواتر بلا خلاف، مع صحتها وصراحتها في الدلالة على المطلوب.

ولعدم وجود أي دليل يدل على عدم جواز المسح على الخفين. أما آية الوضوء وأحاديث غسل القدمين فهي في حالة عدم لبس الخفين، ولا تباين بين الدليلين لتباين الحالتين.

أما الزعم بأن آية الوضوء متأخر وناسخ للمسح فمجرد شبهة ووهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين قبل نزول المائدة وبعدها، كما دل عليه حديث جرير - رضي الله عنه - وغيره.

٣٥ - إن المسح على الخفين موقت للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة؛ وذلك لأن الأحاديث الدالة على التوقيت مع صحتها، وصراحتها، كثيرة حتى بلغت حد التواتر.

أما الأحاديث الدالة على عدم التوقيت-على تقدير ثبوتها وصحتها- فمحتملة لأن تكون منسوخة بالأحاديث الدالة على التوقيت، كما قاله ابن قدامة؛ لوجود ما يدل على تأخرها وهو حديث عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه -؛ حيث دل أن الأمر بالمسح والتوقيت فيه كان في غزوة تبوك، وليس بين غزوة تبوك ووفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مدة يسيرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>