٤٧ - ثبت النهي عن أن يصلى مكتوبة في يوم مرتين، سواء قيل بأنه كان مشروعاً ثم نسخ أم لا، إلا أنه إن ثبت أنه كان يُصلى ذلك في أول الإسلام، فالنهي بعد ذلك عنه ناسخ له، وإلا فالقول بالنسخ مجرد احتمال، مع صحة النهي عن أن يصلى مكتوبة في يوم مرتين.
٤٨ - إن المصلي إذا أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها، ويتم ما بقي منها، وصلاته صحيحة، وكذلك إذا أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها، ويتم ما بقي منها، وصلاته صحيحة؛ وذلك لصحة الأحاديث الدالة على ذلك وصراحتها.
ولضعف قول من قال بنسخ تلك الأحاديث وعدم صحته، إذ لا دليل عليه، كما أنه يمكن الجمع بين تلك الأحاديث، وعند إمكان الجمع بين الأدلة لا يقال بالنسخ.
٤٩ - إن القول بنسخ النهي عن الصلاة وسط النهار قول ضعيف ومردود؛ إذ ليس عليه أي دليل.
ولا يجوز لأحد أن يتحرى الصلاة عند وسط النهار وغيره من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
لكنه يستثنى من هذا النهي الصلاة التي لها سبب، وفي غيرها يبقى على العموم، وبذلك يمكن الجمع بين الأحاديث كلها الواردة في المسألة، والجمع بين الأحاديث أولى من ترك بعضها.
٥٠ - إن القول بنسخ النهي عن الصلاة بعد العصر وعند غروب الشمس قول ضعيف
ومردود؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى ركعتين بعد العصر، ولم يصل عند غروب الشمس، والنهي عن الصلاة عند الغروب أشد منه عن الصلاة بعد العصر، فلا يصح الاستدلال من الصلاة بعد العصر على نسخ النهي عن الصلاة عند غروب الشمس. ثم فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك كان من خصائصه، كما دل عليه بعض الأحاديث.
كما أن القول بنسخ الصلاة بعد العصر ضعيف؛ لأن عائشة-رضي الله عنها- حكت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم على الركعتين بعد العصر حتى لقي الله تعالى، فكيف يقال بنسخ ذلك ولا يعلم تاريخ النهي، أما فعله - صلى الله عليه وسلم - الركعتين فقد ذكرت عائشة -رضي الله عنها- أنه - صلى الله عليه وسلم - داوم عليها حتى الموت.
ولا يجوز لأحد أن يتحرى الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وكذلك في غيره من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
لكن يجوز أن يصلى بعد العصر قبل اصفرار الشمس ما يوجد له سبب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فاتته الركعتان بعد الظهر صلاهما بعد العصر.
٥١ - يستحب أن يقيم من أذن؛ وذلك جمعاً بين الأدلة.
أما دعوى نسخ ما يدل على جواز أن يؤذن أحد ويقيم غيره، فغير صحيح؛ لأن النسخ إنما يصار إليه عند تعذر الجمع بين الأدلة، وفي هذه المسألة أمكن الجمع بينها.
٥٢ - يجوز الإقامة بصفتيه الشفع والإيتار؛ وذلك لأن بلالاً - رضي الله عنه - كان مؤذناً في المدينة، وأبو محذورة - رضي الله عنه - كان مؤذناً في مكة، وقد روي عن كل منهما تثنية الإقامة وإفرادها، وهو دليل للتخيير وإباحة كلا الصفتين، ورد لقولي النسخ المتضادين.
ولكن الأولى إيتار الإقامة؛ لكون الحديث الدال عليه أصح وأثبت من أحاديث تثنيتها.
٥٣ - إن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة؛ وذلك قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فإنه ظاهر في الثياب الملبوسة، وأن معناه طهرها من النجاسة. كما يدل عليه غير ما حديث.
ولأن الأدلة التي استدل بها من قال بعدم اشتراط اجتناب النجاسة لصحة الصلاة يتطرق إليها احتمالات، وبعضها كان بمكة فيتطرق إليها كذلك احتمال النسخ، لأن الأحاديث الدالة على إزالة النجاسة متأخرة؛ لأنها مدنية، بخلاف أدلة من قال باشتراط اجتناب النجاسة
لصحة الصلاة، فإن فيها ما لا يتطرق إليها احتمالات، لذلك كان القول بها متعيناً.
٥٤ - إن الأرض إذا أصابتها نجاسة فإنها تطهر بالماء، وكذلك بالجفاف إذا ذهب أثرها، وبهذا يجمع بين الأحاديث المختلفة، وذلك بحمل حديث صب الماء على البول بما إذا كان أثر النجاسة موجوداً وأريد تعجيل التطهير، فإن تطهيرها يكون بالماء، وحمل حديث ابن عمر في عدم رش الماء على بول الكلاب بما إذا جفت الأرض وذهب أثر النجاسة، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى النسخ.
٥٥ - بول ما يؤكل لحمه طاهر؛ وذلك لأدلة كثيرة مع صحتها وصراحتها، بخلاف أدلة القول المعارض له؛ حيث إنها ليست نصاً في المسألة، وتحتمل أكثر من احتمال.
أما دعوى نسخ ما يدل على طهارة بول ما يؤكل لحمه فغير صحيح؛ وذلك لأنه لا يوجد دليل على أن حديث: (استنزهوا من البول) كان بعد حديث العرنيين، والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر الناسخ، ولا يثبت ذلك بالاحتمال.
ولأنه لا يصار إلى النسخ إلا عند عدم التوفيق بين النصين، وهنا يمكن التوفيق بينهما، وذلك بحمل حديث (استنزهوا من البول) على بول الإنسان، أما حديث العرنيين فهو في بول الإبل، ولا منافاة بينهما.
ومع هذا ينبغي أن يصلي الشخص نظيف الثوب والبدن والمكان، وأن يتوقى جميع أنواع الأبوال؛ خروجاً من خلاف العلماء، وأداءً للفريضة على يقين.
٥٦ - لا يجوز الصلاة في الأماكن التي ثبت وصح النهي عن الصلاة فيها، وإن الأحاديث الدالة على ذلك محكمة غير منسوخة؛ وذلك لأن الأحاديث التي تدل على المنع من الصلاة في تلك الأماكن صريحة في النهي، وهي تدل على التحريم وعدم الجواز، وحملها على الكراهة غير صحيح؛ لأن الأصل في النهي التحريم وعدم الجواز.
ولأن من تلك الأحاديث أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر، واتخاذها مساجد، وحمل هذه الأحاديث على الكراهة دون التحريم بعيد؛ لأنه جاء فيها أن من يتخذ القبور مساجد فهم شرار الخلق عند الله تعالى، كما جاء فيها اللعن على يتخذ القبور مساجد.
ولأن الأحاديث الدالة على النهي عن الصلاة في بعض الأماكن لا تعارض بينها وبين
حديث: «وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»؛ لأنها مخصصة من عمومه.
ولأنه لا يصح القول بتأخر حديث: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) عن الأحاديث الدالة على النهي حتى يكون ناسخاً لها؛ لأن من تلك الأحاديث أحاديث النهي عن الصلاة في المقابر واتخاذها مساجد، وهي متأخرة جداً؛ لأنه جاء في حديث عبد الله بن عباس وعائشة -رضي الله عنهما-أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الموت لعن على من فعل ذلك، فثبت من ذلك ضعف قول من قال بالنسخ، كما تبين أنه لا تعارض بين هذه الأحاديث كلها، وأن الأرض كلها مسجد إلا ما ثبت النهي عن الصلاة فيه.
٥٧ - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما هاجر إلى المدينة صلى قبل بيت المقدس سنة وبضعة أشهر، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى بيت الله الحرام، ونسخ كون بيت المقدس قبلة، وصارت قبلة المسلمين الكعبة المشرفة وبيت الله الحرام.
٥٨ - إن الراجح هو أن يرفع المصلي يديه عند الركوع وعند الرفع منه وإذا قام من الركعتين، وأن ذلك سنة من سنن الصلاة؛ وذلك لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك؛ حيث بلغت حد التواتر، مع صحتها، واستقامة أسانيدها، بخلاف أدلة القول المعارض له.
أما الادعاء بأن رفع اليدين في الصلاة في غير الافتتاح منسوخ أو غير مشروع فقول ضعيف، ومردود؛ وذلك لأن ما استدلوا به على النسخ أمران:
أحدهما: ما روي عن ابن عباس وابن الزبير-رضي الله عنهما-مرفوعاً، وهما صريحان في النسخ، إلا أنهما ليس لهما أصلاً، ولم يذكرا في أي كتاب من كتب الحديث؛ فالاستدلال بهما في غاية السقوط؛ لأنهما لا أصل لهما، والأحاديث الدالة على الرفع متواترة، مع صحة أسانيد كثير منها واستقامتها، فكيف ينسخ ما لا أصل له ما هو ثابت عن رسول الله في أحاديث كثيرة مع صحة أسانيدها.
الأمر الثاني الذي استدلوا به على النسخ: هو أثر علي، وابن عمر -رضي الله عنهما- وهو أنهما رويا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على الرفع، ثم هما لم يرفعا، فدل ذلك على نسخ ما رويا.
وهذا كذلك غير صحيح؛ لأن عدم رفعهما محتمل عدة احتمالات، ثم إنهما روي عنهما
الرفع وعدم ذلك، فالاستدلال من تركهما الرفع على النسخ على احتمال أنهما رويا الرفع وعملا به، ثم تبين لهما النسخ فتركا العمل بالرفع، لا دليل عليه؛ لأنه ليس فيما روي عنهما أن تركهما الرفع كان بعد ما كانا يرفعان، ولذلك للمعارض أن يعكس فيقول: ترك الرفع منسوخ بالرفع؛ لأن علي وابن عمر-رضي الله عنهما- كانا لا يرفعان قبل أن تقوم الحجة عندهما بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عندهما ذلك رفعا أيديهما. وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر؛ لعدم ما يدل عليه.
ولأن للمعارض أن يقول: إن ترك رفع اليدين في غير الافتتاح المروي في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وغيره، وكذلك ما روي من فعل علي وابن عمر، وغيرهما -رضي الله عنهم- من ترك الرفع منسوخ بأحاديث الرفع؛ لأن عدم الرفع في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - كان في الابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين؛ حيث ذكر معه التطبيق، وكان ذلك في ابتداء الإسلام، ثم صار التطبيق منسوخاً، وسُنّ رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه.