٧٩ - كان في أول الإسلام إذ جاء رجل وقد سُبق بشيء من الصلاة قضى ما سُبق به ثم يدخل مع الإمام، ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن من جاء وقد سُبق بشيء من الصلاة أن يصلي مع الإمام ويصنع كما يصنع الإمام، فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به. فثبت منه نسخ أن يصلي المسبوق ما فاته ثم يدخل مع الإمام.
٨٠ - إن القول بنسخ الصلاة قعوداً إذا كان الإمام يصلي جالساً له وجه؛ لأن الصحابة-رضي الله عنهم- قد صلوا خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- قياماً في مرض موته -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس، وكان ذلك بعد ما بدأ أبو بكر -رضي الله عنه- بالصلاة قياماً واقتدى من خلفه به، ثم جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فصلى بهم تلك الصلاة وهو جالس، وهم خلفه قيام. وقد كان ذلك بعد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً). فيدل ذلك على نسخه؛ لأن صلاتهم خلفه -صلى الله عليه وسلم- قياماً وهو قاعد كان بعد الأمر الأول.
إلا أن صلاتهم خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- قياماً في مرض موته -صلى الله عليه وسلم- يتطرق إليه احتمال أن يكون ذلك ناسخاً للأمر الأول. ويتطرق إليه احتمال أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بالقعود لأنهم ابتدءوا الصلاة قياماً.
وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
كما أنه يمكن الجمع بين هذه الأحاديث كلها، وذلك إذا حملت الأحاديث الدالة على الأمر بالجلوس- إذا كان الإمام يصلي جالساً- على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة جلوساً، والأحاديث التي فيها صلاة الصحابة -رضي الله عنهم- خلف النبي -صلى الله عليه وسلم- قياماً وهو قاعد في مرض موته، على ما إذا ابتدأ الإمام الصلاة قياماً ثم حصل له عذر فجلس، فإن من خلفه يتمونها قياماً، وعليه فلا تعارض إذَنْ بين النوعين من هذه الأحاديث، حيث حملت على حالتين، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار معه إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.
٨١ - يقرأ المأموم الفاتحة خلف الإمام، سواء كانت الصلاة سريّة أم جهريّة؛ وذلك لأن الأحاديث التي استُدل بها لهذا القول أكثرها نصوص صريحة في أن المأموم عليه أن يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهي لا تحتمل غير ذلك، لذلك يكون القول بمقتضاها متعيناً.
كما أنه ليس هناك حديث صحيح ينص على النهي عن قراءة الفاتحة خصوصاً، و الأحاديث التي فيها الزجر عن القراءة مع الإمام، أو التي فيها الأمر بالإنصات للقراءة عمومات، ثم قد وجد ما يخص الفاتحة من ذلك العموم، وهو الأحاديث التي فيها الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام، فتكون هذه الأحاديث مخصصة لعموم تلك الأحاديث، ومستثناة من عمومها.
ثم هذا القول يمكن أن يُجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة كلها، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة لا يصار معه إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.
ولذلك يكون أقوال النسخ الثلاثة، أعني القول بنسخ قراءة الفاتحة خلف الإمام، والقول بنسخ القراءة خلف الإمام في الجهرية فقط، والقول بنسخ ما يستدل منه على النهي عن قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام، أقوالاً كلها ضعيفة، إذ ليس على أي واحد منه دليل يثبت به ذلك.
كما أن القول بالنسخ خلاف الأولى؛ لأن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة ممكن، كما سبق ذكره، وهو كذلك مما يضعف القول بالنسخ.
٨٢ - يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل؛ لأن الأدلة الدالة على ذلك ظاهرة وصريحة، وصحيحة، وأدلة القول المخالف له غير صريحة في النهي عن ذلك.
أما ادعاء نسخ حديث معاذ -رضي الله عنه- الذي يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل فغير صحيح؛ لأنه دعوى لا أصل لها، إذ لم يأت قائله بحجة صحيحة يثبت ذلك، ثم يرده قول أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في الخوف بكل طائفة ركعتين ركعتين، مما يدل على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، وأبو بكرة -رضي الله عنه- أسلم بعد فتح مكة، فكيف يقال: إن صلاة المفترض خلف المتنفل كان في أول الإسلام؛ حين كان يجوز أن يصلى صلاة واحدة في يوم مرتين، ثم نسخ ذلك.
٨٣ - يجوز للشخص أن يعيد جميع الصلوات من غير أن يشفع المغرب برابعة؛ وذلك لإطلاق الأحاديث الواردة في الإعادة مع الجماعة، إلا أن الأولى هو أن يشفعها برابعة، وذلك لما روي عن بعض الصحابة- رضي الله عنهم- أنهم قالوا بشفعها برابعة.
أما ادعاء نسخ إعادة صلاة الفجر والعصر والمغرب مع الجماعة إذا صلاها المصلي قبل ذلك في بيته، فضعيف بل مردود وغير صحيح؛ لأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، بل الأحاديث التي تدل على الإعادة معها ما يدل على تأخرها عن أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وهو مما يرد ادعاء النسخ، لأن النسخ لا بد فيه من تأخر الناسخ.
٨٤ - خطبة الجمعة تكون قبل الصلاة، لعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وهو مما لا خلاف فيه بين أهل العلم. وورد ما يدل على أنها كانت بعد الصلاة، ثم نسخ ذلك وجعلت قبل الصلاة، إلا أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف.
٨٥ - إن من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يصلي ركعتين خفيفتين، ثم يستمع للخطبة؛ لأن الأحاديث الدالة على ذلك نصوص صريحة صحية لا يتطرق إليها التأويل، بخلاف ما يعارضون به تلك الأحاديث.
أما ادعاء نسخ صلاة الركعتين إذا دخل والإمام يخطب يوم الجمعة فضعيف؛ لأنه لا يوجد ما يدل على النسخ، إلا مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، كما أنه يرده عمل أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث إنه أحد من روى حديث أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الداخل بالركعتين، ثم كان يعمل بهذا الحديث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلو كان ذلك منسوخاً لما صلى ركعتين، ولأُنكر عليه لو كان عند أحد غيره علم بالنسخ، عندما رآه يفعل ذلك.
٨٦ - يستحب خروج النساء للعيدين؛ لصحة الأحاديث في ذلك وصراحتها، ولعمل الصحابة بها في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته، ولعدم وجود ما يخالفها أو يعارضها من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
إما ادعاء نسخ خروج النساء في العيدين، فغير صحيح؛ لأنه لا دليل عليه، كما أن المقصود من خروجهن ليس الصلاة فقط، بل ليشهدن دعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم
وطهرته، كما دل عليه حديث أم عطية-رضي الله عنها-.
٨٧ - إن من فاتته الصلاة فإنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك-؛ وذلك لكثرة الأحاديث الدالة على ذلك، مع صحتها في الجملة، وليس فيها تعرض للقضاء مرة ثانية.
أما الأحاديث التي تدل على أنه يقضيها، ومن الغد يقضي معها مثلها، فإنه يتطرق إليها احتمالات، منها أن تكون منسوخة بالأحاديث التي فيها أنه يصليها إذا ذكرها، وليس عليه غير ذلك؛ لأن معها ما يدل على تأخرها؛ لما جاء في بعض الروايات أن ذلك كان في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غراها النبي -صلى الله عليه وسلم-، لذلك لو ثبت قضاؤها مرة ثانية، فيكون ذلك منسوخاً بالأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء فقط، وأن ذلك هي كفارتها.
٨٨ - لا يؤخر الصلاة في الخوف حتى في حال القتال؛ وذلك لصحة الأدلة الدالة عليه، وعدم تطرق الاحتمال إليها، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.
ولكن مع هذا إذا اشتد الخوف والتحم القتال، ولم يقدر الشخص أن يصلي على أي حال فله أن يؤخر الصلاة؛ وذلك؛ لأنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}. ولعمل بعض الصحابة على نحو ذلك، كما رواه أنس -رضي الله عنه-.
أما ادعاء نسخ صلاة الخوف فغير صحيح؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الخوف بعد غزوة الخندق، وعمل به أصحابه-رضي الله عنهم- بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يقال بنسخ المتأخر بالمتقدم؟.
أما القول بنسخ تأخير الصلاة في الخوف بصلاة الخوف فقول يدل عليه بعض الآثار، منها حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، ويؤكده أن أبا موسى الأشعري، وأبا هريرة -رضي الله عنهما-صليا صلاة الخوف مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهما قد قدما على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة الخندق.