للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١٠٣ - إن البقر لاشيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، وهذا ما يدل عليه أصح ما يوجد من الأحاديث في هذه المسألة، وقد عمل به جماعة الخلفاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.

أما الأدلة التي تدل على أن في كل خمس من البقر شاة، إلى خمس وعشرين كالإبل، فهي إن صحت تحتمل أن تكون منسوخة بما يخالفها؛ وذلك لأنه ورد في كتاب الصدقات لأبي بكر، وعمر، وعلي-رضي الله عنهم-، وكذلك في حديث معاذ -رضي الله عنه-، أن البقر لا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، فيكون فيها تبيع أو تبيعة. وكتاب أبي بكر -رضي الله عنه- في الصدقات آخر شيء في الصدقات؛ حيث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتبه وتوفي قبل أن يخرجه لعماله، فأخرجه أبو بكر -رضي الله عنه- وعمل به. كما أن حديث معاذ -رضي الله عنه- متأخر؛ حيث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى اليمن، وتوفي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يرجع معاذ من اليمن.

أما ادعاء أن الأدلة التي تدل على إخراج زكاة البقر بالغنم هي الناسخة لما يخالفها، فغير صحيح؛ لأن تلك الأدلة ضعيفة لا تقاوم الأدلة التي تخالفها فضلاً عن أن تكون ناسخة لها.

كما أنه لا يوجد ما يدل على أن تلك الأدلة متأخرة على ما يخالفها.

١٠٤ - إن خرص الثمار للصدقات سنة؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل عليه، وهي وإن كان في بعضها كلاماً، إلا أنها صحيحة في الجملة.

أما ادعاء نسخ خرص الثمار للصدقات فضعيف وغير صحيح؛ لأن أقوى ما يستدل به

على النسخ هو أن يكون الخرص منسوخاً بالمزابنة، لكنه شذوذ كما قاله ابن عبد البر، ويرده عمل الخلفاء والصحابة على الخرص بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث لم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف فيه، فلو كان الخرص منسوخاً بالمزابنة لما عملوا به.

١٠٥ - إن سهم المؤلفة قلوبهم باق، وإنهم يُعطون من الصدقات عند الحاجة إليه، ولا يُعطون عند عدم الحاجة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ}. ولأحاديث كثيرة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي المؤلفة قلوبهم، وأنه أعطاهم حتى بعد فتح مكة. فهي تدل على أن سهمهم باق، وأنهم يعطون من الصدقات، وكذلك من مال الفيء.

إما ادعاء نسخ الإعطاء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم فضعيف؛ لأنه ليس عليه حجة صريحة، لا من الكتاب ولا من السنة.

وعدم إعطاء الخلفاء بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- للمؤلفة قلوبهم يحتمل النسخ وعدم الحاجة إليهم والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

١٠٦ - إن صدقة الفطر واجبة مفروضة؛ وذلك لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. وقد سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- وغيره.

وللأحاديث الكثيرة في زكاة الفطر؛ حيث إن بعضها فيه التصريح بأنها فريضة، وفي بعضها التصريح بأنها واجبة، وفي بعضها الأمر بأدائها. فيثبت من مجموعها أن صدقة الفطر واجبة مفروضة.

أما ادعاء نسخ صدقة الفطر، فهو غير صحيح؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بصدقة الفطر، ولم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على النهي عنها أو على تركها حتى يكون ناسخاً لها. كما أن نزول الزكاة ووجوبها ليس منافياً ولا معارضاً لصدقة الفطر؛ لذلك لا يصح أن يقال بأنها نسخت بوجوب الزكاة.

١٠٧ - إذا غم الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإنه يكمل عدد شعبان ثلاثين يوماً، ولا يصام ذلك اليوم؛ وذلك لقوة الأدلة الدالة عليه، وكثرتها، وصراحتها؛ حيث لا تحتمل غير الدلالة على تكميل الشهر ثلاثين يوماً إذا غم الهلال، بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

أما ادعاء النسخ في المسألة فضعيف وغير صحيح؛ لإمكان الجمع بين الأدلة. وعدم وجود

ما يدل على أن قوله: (فإن غم عليكم فاقدروا له) متقدم على الأحاديث التي فيها الأمر بإكمال العدد إذا غم الهلال، حتى تكون هي ناسخة له.

١٠٨ - إن الصوم الواجب لا يجوز إلا بنية من الليل، أما صوم التطوع فيجوز بنية من النهار؛ وبذلك يجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة.

ولذلك لا حاجة للقول بالنسخ في المسألة؛ لأن النية من النهار في صوم عاشوراء حصل لا لكونه أنه واجب معين أو أنه تطوع، بل لأنهم أمروا به من النهار، والرجوع إلى الليل غير مقدور.

١٠٩ - كان الأكل والشرب والجماع محرماً في ليالي الصيام بعد النوم أو بعد صلاة العشاء، ثم نسخ ذلك، وأبيح كل ذلك إلى طلوع الفجر.

١١٠ - لا يجوز السحور بعد طلوع الفجر الصادق؛ وذلك لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. وقد فسره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».

ولكثرة الأحاديث الدالة على أن آخر وقت السحور هو طلوع الفجر الصادق حتى بلغت التواتر، مع صحتها وصراحتها في الدلالة.

ولأن القول بأن حديث حذيفة -رضي الله عنه- الدال على جواز السحور بعد الفجر الصادق وما في معناه منسوخ بالأدلة الدالة على تحريم السحور بعد طلوع الفجر الثاني، له وجه؛ حيث يظهر من حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم-رضي الله عنهما-: أن بعض الصحابة كانوا يتسحرون إلى أن يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود-والمراد به الخيط من شعر ونحوه- ثم نزل قوله تعالى: {مِنْ الْفَجْرِ}، وبين المراد بالخيط، وحرم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير، ويدل على هذا التحريم كذلك حديث سهل بن سعد، وعدي بن حاتم، وسمرة بن جندب-رضي الله عنهم-، فتكون الأدلة الدالة على تحريم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر المستطير، هي المتأخرة، والناسخة للأدلة التي تفيد جواز الأكل والشرب إلى الإسفار، وقبل طلوع الشمس

١١١ - يصح صوم من أصبح وهو جنب؛ وذلك لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، ويؤكد ذلك ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعله وتقريره، فيما رواه عنه عائشة، وأم سلمة-رضي الله عنهما-، ويدل عليه كذلك أدلة كثيرة وصحيحة.

كما أن القول بنسخ حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الدال على عدم صحة صوم من أصبح وهو جنب، له وجه؛ حيث يوجد في الأدلة المخالفة له ما يدل على تأخرها عليه.

١١٢ - تدل أدلة كثيرة على أن الإفطار ممن يطيق الصيام والافتداء عنه بطعام، كان رخصة في أول فرض الصيام، ثم نسخ ذلك وصار الصيام على من يطيقه حتماً واجباً، إذا لم يكن له عذر.

١١٣ - إن الحجامة لا تفطر الصائم، لا الحاجم ولا المحجوم، ولكنها تكره من أجل الضعف؛ وذلك لما صح وثبت من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم؛ ولحديث أبي سعيد الخدري، وأنس-رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص في الحجامة للصائم؛ ولحديث أنس -رضي الله عنه- وغيره، من أن الصحابة-رضي الله عنهم-لم يكونوا يكرهون الحجامة للصائم إلا من أجل الضعف.

ولأن القول بأن الفطر بالحجامة، قد نسخ، صحيح وراجح؛ وذلك لأن حديث ابن عباس -رضي الله عنه- بأن النبي -صلى الله عليه وسلم-

احتجم وهو صائم، وإن لم يوجد فيه ما يصرح بأنه كان عام حجة الوداع، إلا أنه يدل على تأخره وأنه ناسخ لغيره ما جاء في حديث أبي سعيد، وأنس-رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص في الحجامة للصائم، والرخصة في الغالب يكون بعد النهي. كما جاء من التصريح في حديث أنس -رضي الله عنه- من أن الرخصة في الحجامة للصائم كانت بعد قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للحاجم والمحجوم: «أفطر هذان».

أما ادعاء أن الفطر بالحجامة هو الناسخ لما يخالفه، فقول ضعيف ومرجوح؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في الفطر بالحجامة مع كثرتها ليس فيها ما يدل على أنها متأخرة عن الأحاديث التي تفيد عدم الفطر بالحجامة، وكون أحاديث الفطر بالحجامة زمن الفتح لا يدل على تأخرها؛ لاحتمال أن يكون ما يدل على عدم الفطر بعد ذلك، ويؤكد ذلك ما جاء فيها من لفظ الرخصة، وأنها كان بعد قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أفطر هذان).

ولأن الأحاديث التي جاء فيها الفطر بالحجامة يوجد بينها تعارض هل كان ذلك بمكة أو بالمدينة، وهو مما يضعف الاستدلال منها على النسخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>