للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١١٤ - إن المسافر مخير بين الصوم والفطر، إلا أن الصوم أفضل من الفطر، إذا لم يجهده ولم يتضرر به-؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى رخص في كتابه للمسافر أن يفطر في السفر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- صام في السفر وأفطر، وقال لمن سأله عن الصوم في السفر-كما في حديث عائشة-رضي الله عنها-: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر).

كما روي عنه أنه زجر عن الصوم أحياناً عند وجود المشقة والجهد، كما نسب بعضهم إلى العصيان لما أمرهم بالفطر فلم يفطروا.

لكن عند جمع هذه الأحاديث والنظر فيها وفي سبب ورودها، فإنه يظهر منها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصوم في السفر، وقد صام في السفر قبل فتح مكة وبعده، فعلى هذا يكون الصوم في السفر أفضل من الفطر لمن لم يجهده؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- صام في السفر، وأنه لم يفطر إلا عند حصول جهد له أو لغيره من الصائمين أو لوجود سبب آخر يدعو للفطر، فافطر حتى يفطروا.

وبه يمكن الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة؛ وذلك بحمل صوم النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر على الأفضل، وبحمل ما يدل على الفطر على وجود سبب، أو لمشقة وجهد.

أما ادعاء نسخ الصوم في السفر فغير صحيح؛ لأنه لا يوجد دليل يدل على تأخر ما يدل على عدم الصوم في السفر على ما يدل على جواز الصوم في السفر. وفطر النبي -صلى الله عليه وسلم- في السفر في غزوة الفتح ليس آخر الأمرين على الإطلاق، بل صام ثم أفطر، فهو متأخر عن هذا الصوم، لكنه قد صام هو والصحابة في السفر بعد ذلك كما يدل عليه حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.

كما أنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة المختلفة فإنه لا يصار معه إلى ترك بعضها ولا إلى القول بالنسخ.

١١٥ - يدل أحاديث كثيرة على سنية واستحباب الفطر والأكل يوم عيد الفطر قبل

الخروج إلى الصلاة، ولم أجد دليلاً يدل على أن الفطر وأكل شيء قبل صلاة عيد الفطر كان حراماً في أول الإسلام ثم نسخ، بل الأحاديث تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- داوم على الفطر وأكل شيء قبل الخروج إلى الصلاة، ولم يُنقل عنه -صلى الله عليه وسلم- من قوله أو فعله ما يدل على خلاف ذلك.

١١٦ - يجوز صيام الولي عمن مات وعليه صيام، سواء كان صوم رمضان أو غيره، كما يجوز أن يطعم عنه؛ أما الإطعام فلما روي عن ابن عمر، وعائشة، وابن عباس، وغيرهم-رضي الله عنهم-؛ حيث إنها تدل على جواز الإطعام ممن مات وعليه الصيام. وهو مما لا خلاف فيه بين أصحاب المذاهب الأربعة.

أما جواز أن يصوم الولي عمن مات وعليه الصيام، سواء كان صوم رمضان أو غيره؛ فلعموم حديث عائشة-رضي الله عنها-، وعدم تقييد حديث بريدة -رضي الله عنه- بصوم معين، وتعدد روايات حديث ابن عباس -رضي الله عنه-؛ حيث بعضها يفيد جواز صوم النذر عن الميت، و بعضها يفيد جواز مطلق الصيام عنه. فيكون مجموع هذه الأحاديث دالة على أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه، سواء كان صوم رمضان أو غيره.

أما ادعاء نسخ قضاء الصوم عن الميت فضعيف وغير صحيح، وذلك؛ لأنه لا بد في النسخ من تأخر الناسخ، والأحاديث الدالة على قضاء الصوم عن الميت صحيحة وصريحة وثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- ما يعارض ذلك فضلاً عن كونه متأخراً، فبأي شيء تكون منسوخة؟!.

أما عمل الراوي أو فتواه على خلاف مَرْوِيِّهِ فله عدة احتمالات، منها: أن يكون ما رواه منسوخاً عنده، وهذا أحد الاحتمالات، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.

١١٧ - تدل أحاديث كثيرة على أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- صامه وأمر بصيامه، وتأكد ذلك بالنداء العام، وبأمر من أكل بالإمساك بقية اليوم، كما تأكد ذلك بقول عائشة وابن عمر-رضي الله عنهم-: (لما فُرض رمضان تُرك عاشوراء)؛ لأن استحبابه باق لم يترك، فدل على أن المتروك هو وجوبه.

ثم تلك الأحاديث تدل كذلك على نسخ ذلك الوجوب؛ حيث دلت على أن وجوب

صوم عاشوراء كان قبل فرض رمضان، وأنه لما فُرض رمضانُ تُرك عاشوراء، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه». فثبت بذلك نسخ وجوب صيامه.

لكن بقي استحباب صيامه؛ حيث إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صامه بعد نسخ وجوبه، وبعد فرض رمضان.

١١٨ - ورد أحاديث كثيرة تدل على استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وعلى عدم وجوبه، وورد ما يدل على أن صوم ثلاثة أيام كان واجباً، ثم نسخ وجوبه، لكن في إسناد تلك الأحاديث ضعف، لكن لا خلاف بين أهل العلم في استحباب صيامه وعدم الوجوب.

١١٩ - يكره تنزيهاً إفراد يوم السبت بالصوم إلا أن يوافق عادة، ولا يكره إذا انضم معه غيره، وأن النهي عن صوم يوم السبت غير منسوخ؛ وذلك لأن الحديث الذي يدل على النهي عن صوم يوم السبت قد صححه جمع من أهل العلم، ويمكن جمعه مع الأحاديث التي يُستدل منها على جواز صومه. وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فالقول به متعين، ولا يصار إلى النسخ، ولا إلى ترك بعضها.

ولأنه لا يوجد ما يصرح بالنسخ، وأن ما يدل على الجواز متأخر عن ما يدل على النهي، وما ذكر في وجه الاستدلال على النسخ مجرد احتمال، والنسخ لا يثبت به.

١٢٠ - إن الأعراب الذين حجوا بعد فتح مكة ثم هاجروا فإنهم يجزون ذلك عنهم عن حجة الإسلام، وليس عليهم إعادة الحج بعد الهجرة؛ وذلك للأدلة التي تدل على فرضية الحج على المسلمين ممن استطاع إليه سبيلاً، والأعرابي المسلم من جملتهم، مع ما في هذه الأدلة من أن الحج إنما يجب مرة واحدة في العمر.

وقد اختلف أهل العلم في المراد بالأعرابي والهجرة في حديث ابن عباس -رضي الله عنه- وما في معناه؛ حيث ذهب بعضهم إلى أن المراد بالأعرابي الكافر، والمراد بالهجرة الإسلام، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر الإسلام باسم الهجرة. وإنما سموا مهاجرين؛ لأنهما هجروا الكفار.

وإذا كان المراد به أن الكافر إذا حج قبل الإسلام ثم أسلم فإن عليه حجة أخرى فهذا مما

لا خلاف فيه؛ لأن عند الجميع يشترط الإسلام لصحة الحج.

على أنه يظهر لي-والله أعلم بالصواب- من مجموع طرق حديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم- أن المراد بالأعراب الذين عليهم حجة أخرى بعد الهجرة: هم الذين حجوا ثم هاجروا قبل فتح مكة خاصة، وليس المراد الأعراب الذين حجوا بعد فتح مكة.

ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما حج حجة الوداع وأذن في الناس بذلك، قدم المدينة بشر كثير، كما في حديث جابر -رضي الله عنه-، وهؤلاء القادمون إلى المدينة من البشر يشمل الأعراب وغيرهم، ثم لم يُرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر الأعراب بالهجرة، أو أن عليهم الحج بعد هجرتهم، وبعد حجتهم تلك.

فهذا، وكذلك ما استُدل به على النسخ، يقوي احتمال أن يكون ما يدل على إعادة حج من حج من الأعراب قبل الهجرة منسوخاً إن أريد به عموم الأعراب أي سواء من حج منهم قبل فتح مكة أو بعده ثم هاجر.

<<  <  ج: ص:  >  >>