للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١٢١ - إن العبد إذا حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى إذا استطاع إليه سبيلاً؛ وذلك لأن الأدلة التي تدل عليه أدلة خاصة، بخلاف أدلة القول المخالف له، والخاص يقدم على العام ويقضى به عليه.

أما ادعاء نسخ حديث ابن عباس -رضي الله عنه- الذي يدل على وجوب إعادة الحج على العبد إذا أعتق فغير صحيح؛ لأن حديثه موافق للآية الكريمة وكذلك الأحاديث الدالة على فرض الحج؛ لأن هذه الآية لم توجب حج البيت إلا على من استطاع إليه سبيلاً، والأحاديث المطلقة مقيدة كذلك بهذا القيد، والعبد غير مستطيع.

كما أن الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة ممكن، وذلك بحمل الأدلة العامة على ما عدا محل الخصوص، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة فإنه لا يصار معه إلى نسخ بعضها، على أن الخاص لا ينسخ بالعام.

ولأن هذا الحكم لو كان منسوخاً لما خفي ذلك على سلف هذه الأمة وأئمتها، ولما اتفقوا على القول بموافقته، وإذ ليس الأمر كذلك دل ذلك على بطلان القول بنسخه.

١٢٢ - جاء في غير ما حديث أن ميقات أهل المشرق هو ذات عرق، وجاء في حديث ابن عباس -رضي الله عنه- ما يدل على أن ميقاتهم هو العقيق، لكنه ضعيف، وعلى تقدير ثبوته يكون منسوخاً؛ لأن الناس أجمعوا على صحة إحرام من أهل من ذات عرق، ولو كان العقيق ميقاتاً لأهل المشرق لما صح إحرامهم من ذات عرق. والإجماع لا ينسخ لكنه يدل على النسخ وعلى تأخر ما يوافقه.

١٢٣ - يستحب الطيب عند الإحرام، ولا بأس ببقاء أثره بعد الإحرام؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تطيب في حجة الوداع قبل الإحرام، وبقي عليه أثره بعد الإحرام، كما أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينه من فعل ذلك، بل قررهم عليه.

أما الأمر بغسل الطيب وأثره في حديث يعلى -رضي الله عنه- فيحتمل أنه أريد به نوع خاص من الطيب وهو الخلوق، وهو قد جاء النهي عنه في غير الإحرام كذلك، فيكون الأمر بالغسل مختصاً بهذا النوع من الطيب وأثره، ولا يكون شاملاً لمطلق أنواع الطيب.

كما يحتمل أن يكون المراد به مطلق الطيب، وعليه فيكون ذلك منسوخاً؛ لأن ذلك كان سنة ثمان، وقد تطيب النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع وهو كان سنة عشر، والمتأخر يكون ناسخاً للمتقدم.

١٢٤ - يجوز الاشتراط في الحج والعمرة، لمن خاف الحبس عن أداء النسك، وإنه لم ينسخ؛ وذلك لصحة ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعدم صحة ما ينافيه.

أما ادعاء نسخ الاشتراط في النسك فضعيف وغير صحيح يدل على ذلك أن ما ستُدل به على النسخ ضعيف السند؛ لذلك لا يصح الاستدلال منه على نسخ ما صح وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله.

ولأن ما يُستدل به على النسخ روي ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنه-، وقد روي عنه القول بمقتضى حديث ضباعة-رضي الله عنها-، وهو مما يضعف الرواية عنه بالنسخ.

١٢٥ - ليس من البر للمحرم إتيان البيوت من ظهورها. وإنكار النبي -صلى الله عليه وسلم- على قطبة بن عامر خروجه من الباب يدل على أنه كان مشروعاً في أول الإسلام، ثم نسخ الله ذلك وأمر بإتيان البيوت من الأبواب؛ لذلك لا يحرم إتيانها من الأبواب في حال من الأحوال.

١٢٦ - يستحب الإحرام لمن يدخل مكة ولا يريد النسك، ولا يجب عليه؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع قوتها وظهورها، بخلاف بما يخالفه.

أما ادعاء نسخ دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة بغير إحرام، فغير صحيح؛ لعدم صحة الاستدلال على نسخ ذلك من الأحاديث التي بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها حرمة مكة وأن حرمتها عادت بعد ما أحلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ساعة؛ لأن الظاهر من تلك الأحاديث بيان حرمة الاقتتال في مكة وسفك الدماء بها لا الدخول إليها بغير إحرام.

١٢٧ - إن الأولى قطع الخفين أسفل من الكعبين لمن لم يجد النعلين، وأحرم بالحج أو العمرة؛ وذلك عملاً بحديث ابن عمر -رضي الله عنه-، واحتمال حمل إطلاق حديث ابن عباس -رضي الله عنه- على المقيد من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-. وخروجاً من الخلاف، وأخذاً بالاحتياط.

لكنه لا يجب عليه قطعهما، وذلك لحديث ابن عباس وجابر-رضي الله عنهما- مع قوة احتمال أن يكون الأمر بالقطع في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- منسوخاً بهما؛ لأنه صح أن حديث ابن عباس -رضي الله عنه- بعد حديث ابن عمر -رضي الله عنه-.

أما ادعاء نسخ حديثي ابن عباس وجابر-رضي الله عنهم-والذين يدلان على جواز لبس الخفين بدون القطع عند عدم وجود النعلين-، بحديث ابن عمر -رضي الله عنه- فغير صحيح؛ لأن حديث ابن عباس -رضي الله عنه- متأخر عنه، ولا يجوز نسخ المتأخر بالمتقدم.

١٢٨ - إن التمتع الذي هو أن يحرم بالحج ثم يتحلل منه بعمل عمرة، ثم ينشئ الحج بعدها، فيصير متمتعاً يسمى بفسخ الحج إلى العمرة. وقد صحت الأخبار فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنه أمر أصحابه الذين لم يهدوا أن يفسخوا حجهم إلى العمرة، ولا خلاف في صحة هذه الأخبار، وأنها تبلغ حد التواتر.

لكن اختلف أهل العلم بعد-اتفاقهم على صحة هذه الأخبار-هل كان هذا الفسخ خاصاً بالصحابة، أم هو لهم ولمن بعدهم، اختلفوا فيه على أربعة أقوال: قول بأنه منسوخ. وقول باختصاصه بالصحابة-رضي الله عنهم- وعدم جوازه لمن بعدهم. وقول بالجواز مطلقاً أي للصحابة ولمن بعدهم. وقول بالوجوب مطلقاً.

والأدلة التي تدل على عدم جواز الفسخ، أو اختصاصه بالصحابة-رضي الله عنهم- منها ما هو مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصريح في الدلالة، لكنه متكلم فيه. ومنها ما يدل على اختصاص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم-، لكنه ليس بصريح فيه، ويحتمل الرفع والوقف. ومنها ما يدل على اختصاص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم-، وهو صحيح لكنه موقوف.

ثم هذه الأدلة بمجموعها تصلح للاحتجاج بها.

ولا يوجد دليل يصح الاستدلال منه على نسخ فسخ الحج إلى العمرة.

كما أن القول بالنسخ يعارضه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله سراقة بن مالك -رضي الله عنه- عن ذلك و قال: يا رسول الله، هي لنا أو للأبد؟ فقال: «لا، بل للأبد». فإن الظاهر منه أن السؤال وقع عن الفسخ، وقد أجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك للأبد، وهو إخبار باستمراره، وهو مما يستحيل ورود النسخ عليه.

وإن القول باختصاص فسخ الحج بالصحابة-رضي الله عنهم-وإن كان يوجد ما يدل عليه، إلا أن الراجح هو القول بجواز واستحباب فسخ الحج إلى العمرة؛ وذلك لأن الأدلة التي يستدل منها على تخصيص الفسخ بالصحابة-رضي الله عنهم-يمكن أن يكون المراد به وجوب فسخ الحج، فإنه كان واجباً على الصحابة الذين لم يهدوا، ويكون جوازه باقياً لمن بعدهم. وبه يجمع بين هذه الأدلة جميعاً، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث فإنه لا يصار إلى القول بالنسخ.

١٢٩ - يستحب رفع اليدين عند رؤية البيت؛ وذلك لما جاء في بعض الروايات ما يدل على الرفع. أما ما جاء مما يدل على عدم الرفع، فيحمل ذلك على نفي الوجوب، وبه يجمع بين هذه الأحاديث، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها.

ولا يصح الاستدلال من حديث جابر -رضي الله عنه- على نسخ رفع اليدين عند رؤية البيت؛ وذلك لإمكان الجمع بين الحديثين، وعدم وجود ما يدل على أن حديث ابن عمر، وابن عباس-رضي الله عنهما-كان قبل حجة الوداع، حتى يكون حديث جابر -رضي الله عنه- متأخراً عنه، وناسخاً له.

١٣٠ - المشروع في الرمل، هو الرمل من الحجر إلى الحجر؛ وذلك لأن ما يدل عليه حديث ابن عباس -رضي الله عنه- من عدم الرمل بين الركنين، كان ذلك سنة سبع في عمرة القضاء. وما يدل عليه حديث ابن عمر، وجابر-رضي الله عنهما- من الرمل من الحجر إلى الحجر، كان ذلك سنة عشر في حجة الوداع، فهو متأخر، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول

الله -صلى الله عليه وسلم-. فيكون ترك الرمل بين الركنين منسوخاً بحديثهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>