للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١٣١ - إن من رمى جمرة العقبة ولم يطف بالبيت حتى أمسى فإنه لا يعود محرماً؛ وذلك للأحاديث الكثيرة التي جاء فيها ذكر التحلل الأول، وليس فيها ما يدل على عود من حصل له ذلك محرماً إذا لم يطف طواف الإفاضة يوم النحر. كما أن الآثار المروية عن الصحابة-رضي الله عنهم- ليس فيها أي ذكر لذلك، مع عموم البلوى به.

أما ادعاء نسخ الحديث الذي يدل على عوده محرماً إذا لم يطف حتى أمسى فضعيف إلا أنه محتمل؛ حيث لم ينقل عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال به، كما لم يقل به عامة أهل العلم فهو كشبه الإجماع على ترك العمل به. والإجماع ليس مما ينسخ به، لكنه يدل على ناسخ.

١٣٢ - ليس على الحائض طواف الوداع؛ لدلالة أحاديث كثيرة عليه، وهي أكثر، وأصح من أدلة القول المخالف له.

وإن التعبير بلفظ: (رخص) تدل على أنهن مستثنى عن الحكم العام، كما يدل على أن هذه الرخصة متأخرة على الحكم المخالف لها. كما أن رجوع عدد من الصحابة-رضي الله عنهم-إلى القول بالرخصة لهن يدل على صحة هذا القول وأولويته، وأن هذه الرخصة متأخرة، لذلك رجعوا إليها، وبذلك تكون أدلة الرخصة ناسخة لما يخالفها.

١٣٣ - ورد أحاديث صحيحة صريحة تدل على جواز قتل الغراب في الحرام وغيره، وجاء في حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- ما يدل على عدم قتله، لكن حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- هذا لا يقاوم تلك الأحاديث، وعلى تقدير صحته فإنه يكون منسوخاً بتلك الأحاديث؛ لأنها تدل على الرخصة في قتله، وحديث أبي سعيد -رضي الله عنه- يدل على النهي عن قتله، والرخصة يكون بعد النهي، وإلا فليزم التغيير مرتين.

١٣٤ - لا يجوز استحلال الحرم بقتال من يباح قتاله إلا إذا قاتل، وذلك لأدلة كثيرة وصحيحة تدل عليه.

أما استحلال حرم مكة بالقتال عند فتحها، فإنه كان رخصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعة من نهار، ثم عاد حرمتها بعد ذلك إلى يوم القيامة. وقد عبر عنه بعض أهل العلم بالنسخ،

والأحاديث الواردة في ذلك صحيحة وصريحة.

أما ادعاء نسخ النهي عن القتال عند المسجد الحرام، فغير صحيح؛ وذلك لأن أدلة النهي عن القتال عند المسجد الحرام أدلة خاصة، والأدلة التي تدل على قتال المشركين كافة أدلة عامة، والجمع بينهما ممكن وذلك بحمل العام على ما عدا محل الخصوص.

ولأن الأدلة التي تدل على عدم جواز القتال عند المسجد الحرام صريحة في تأبيد هذا الحكم إلى يوم القيامة، كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنه-: (فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة). وما كان هكذا فلا يمكن نسخه؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن حرمته مؤبد إلى يوم القيامة، وأخباره -صلى الله عليه وسلم- صادقة لا خلف لها؛ لذلك يكون القول بالنسخ غير صحيح.

١٣٥ - يجوز أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها؛ وذلك لصحة الحديث فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل بعض الصحابة-رضي الله عنهم-على وفقه، بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعدم وجود ما يدفعه أو يعارضه.

أما ادعاء نسخ أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها فغير صحيح؛ لأن سعد -رضي الله عنه- راوي الحديث عمل به بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينكر عليه أحد، فلو كان ما رواه منسوخاً لما عمل به بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولأُنكر عليه لو كان عند أحد من الصحابة علم بنسخه.

١٣٦ - يحرم صيد المدينة والقطع من شجرها؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع صحتها وقوتها، بخلاف أدلة القول المخالف له.

كما أنه يمكن الجمع بين الأدلة في المسألة، وذلك بحمل هذه الأحاديث على تحريم الصيد داخل حرم المدينة، وقطع شجرها. وحمل أدلة القول المخالف له على ما إذا صاد خارج الحرم ثم أدخله إلى الحرم، فيكون الأول محرماً دون الثاني، وإذا أمكن الجمع بين الأدلة كان القول به متعيناً، ويتعذر معه ادعاء النسخ.

أما ادعاء نسخ أحاديث تحريم الصيد في حرم المدينة وقطع شجرها، فغير صحيح؛ لأن القول بنسخ تحريم صيد المدينة وقطع شجرها بناها قائلوها على نسخ أخذ سلب من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها، وقد مرّ بطلان هذا الزعم، فيكون ما بُني عليه باطلاً كذلك.

ولأن الصحابة-رضي الله عنهم-عملوا على وفق هذه الأحاديث بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

فكانوا يرون تحريم صيد المدينة وقطع شجرها، وقد سلب بعضهم من وجده يصيد فيها أو يقطع من شجرها. ولم يوجد في عصرهم من أنكر عليهم شيء من ذلك، فلو كان هناك نسخ لكان أول من علمه بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، ولما علموا به بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-.

١٣٧ - يجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليال، وإن النهي عنه قد نسخ؛ لأن الأدلة الدالة على هذا فيها تصريح بأن الإذن في ادخارها فوق ثلاث ليال كان بعد النهي عنه، وهو صريح في جواز ادخارها، ونسخ النهي السابق.

١٣٨ - لا يجوز الحلف بغير الله تعالى مطلقاً؛ وذلك لكثرة الأدلة الدالة عليه، مع أنها صريحة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى.

ولأن الأحاديث التي ورد فيها النهي عن الحلف بغير الله تعالى معها ما يدل على تأخرها عن الأحاديث التي ورد فيها ذكر الحلف بغير الله تعالى، فتكون منسوخة بها، ومن ذلك حديث يزيد بن سنان -رضي الله عنه-، وهو ظاهر في أن النهي عن الحلف بغير الله متأخر عما يدل على جواز الحلف بغير الله تعالى؛ حيث جاء فيه: (إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحلف زمناً فيقول: لا وأبيك، حتى نهي عن ذلك).

وكذلك حديث قتيلة-رضي الله عنها-يدل على أن النهي عن الحلف بغير الله تعالى جاء بعد ما كان بعض المسلمين يحلفون بغير الله تعالى.

١٣٩ - إن العقيقة سنة ومستحبة، وليست بواجبة؛ وذلك لكثرة الأدلة التي تدل على ذلك، مع صحتها وثبوتها من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث الواردة في المسألة، وما دام الجمع بين الأحاديث ممكناً لا يصار إلى النسخ ولا إلى ترك بعضها.

أما الإدعاء بأن العقيقة نسخت فصارت مباحة، فغير صحيح؛ لعدم ثبوت ما يدل ذلك، مع وجود ما يدل على مشروعيتها بعد مشروعية الأضحية، بل ووجود ما يدل على مشروعيتها واستحبابها في حجة الوداع.

وأما القول بأن العقيقة كانت واجبة، ثم نسخت فصارت سنة ومستحبة، فقول له وجه واحتمال، إلا الأولى من ذلك الجمع بين الأدلة الواردة في المسألة، والجمع بينها ممكن.

١٤٠ - لا يجوز تخضيب رأس الصبي بدم عقيقته؛ وذلك لكثرة ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مما يدل على النهي عن مس رأس الصبي بالدم، مع صحتها وصراحتها.

ولأن الأدلة التي تدل على التخضيب على تقدير صحتها تكون منسوخة بالنهي عن مس رأس الصبي بدم؛ حيث إن حديث بريدة وعائشة -رضي الله عنهما- يدلان على أن ذلك العمل كان قبل، وأنه ترك في الإسلام وجعل بدل الدم الخلوق والزعفران.

١٤١ - إن الفرع الذي كان عليه أهل الجاهلية، من ذبح أول النتاج لطواغيتهم، كما هو مذكور في رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- فهو حرام ولا يجوز؛ لأنه من الشرك الأكبر، وهو حرام بلا خلاف.

كما أن عتيرة الجاهلية التي هي كما في رواية ابن عباس-رضي الله عنهما-أنهم كانوا يذبحون، ثم يعمدون إلى دماء ذبائحهم فيمسحون بها رؤوس نصبهم- حرام لا تجوز؛ لما في ذلك من اعتقاد البركة من النصب، ومن الاحترام لها وللأصنام، وهو مخالف لعقيدة التوحيد والإسلام.

أما الفرع بمعنى ذبح أول النتاج من أجل شكر الله على هذا النتاج الذي هذا أوله، فلا بأس به، لكن الأفضل والأولى أن يتركه حتى يكون ابن لبون أو ابن مخاض فيحمل عليه في سبيل الله أو يعطيه أرملة، كما يدل عليه حديث نبيشة، وعبد الله بن عمرو-رضي الله عنهم-وغيرهما.

كما أن العتيرة التي هي بمعنى أن يذبح لله تعالى في رجب ويتصدق لا بأس بها، لكن الأولى والأفضل هو عدم تخصيص رجب بها؛ لحديث نبشية -رضي الله عنه-: «اذبحوا لله عز وجل في أي شهر كان، وبروا لله، وأطعموا».

قد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالفرع والعتيرة، وأنهما حق، فإن أريد بها الوجوب فهو منسوخ؛ لأن حديث الحارث بن عمرو، وابن عباس-رضي الله عنهم-يدلان على أن الفرع والعتيرة إلى الإختيار والمشيئة، وهو ينفي الوجوب إن لم ينف الاستحباب، ثم حديث الحارث بن عمرو -رضي الله عنه- صريح في أنه سمع ذلك من رسول الله في حجة الوداع. فمعه ما يدل على تأخره على ما يخالفه.

كما يدل على نسخ ذلك حديث أبي هريرة وابن عمر-رضي الله عنهم-: «لا فرع ولا عتيرة»؛ فإن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل.

وإن لم يكن الأمر بالفرع والعتيرة للوجوب بل للاستحباب فإنه محتمل كذلك للنسخ؛ لأن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ويؤيد ذلك كونهما يفعلان في الجاهلية، وحديث الحارث بن عمرو -رضي الله عنه- يدل على إباحتهما لا على استحبابهما، وهو كان في حجة الوداع.

<<  <  ج: ص:  >  >>