للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١٤٢ - يحل أكل لحوم الخيل بلا كراهة؛ لأن الأدلة الدالة عليه مع صحتها صريحة في جواز أكل لحوم الخيل.

ولأنه لم يرو عن أحد من أصحاب رسول الله أنه كان يكره لحوم الخيل إلا ابن عباس -رضي الله عنه- والرواية عنه فيه ضعف، وقد روى مرفوعاً ما هو صريح في حل لحومها.

ولأن حديث خالد بن الوليد، وجابر-رضي الله عنهما- الذين يدلان على تحريم لحوم الخيل، قد ضعفهما غير واحد من أهل العلم، وعلى تقدير صحتهما وثبوتهما فإنهما يحتملان أن يكونا منسوخين بحديث جابر -رضي الله عنه-؛ حيث جاء فيه لفظ الإذن والرخصة، وهما مما يدل على تأخر الإباحة على الحظر والمنع.

١٤٣ - لحوم الحمر الأهلية حرام، لا يحل أكلها؛ لأن الأدلة الدالة عليه مع كثرتها-حيث تبلغ مبلغ التواتر- صحيحة وصريحة غير محتملة لأكثر من احتمال واحد، بخلاف الأدلة المعارضة لها.

ولأن حديث غالب ابن أبجر وأم نصر المحاربية-رضي الله عنهما-ضعيفان لا يقويان على معارضة الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية، وعلى تقدير صحتهما فيحتملان أن جواز الأكل من لحوم الحمر الأهلية المستفاد منهما كان لأجل الحاجة و الاضطرار.

ولأنه إذا صح حديث غالب ابن أبجر، وأم نصر المحاربية، وأريد بالآية الكريمة وهي قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً}. حصر المحرمات من المطعومات فيما ذكر فيها، يظهر صحة القول بنسخ ما يدل على جواز أكل لحوم الحمر الأهلية، ويؤكد ذلك ما جاء في رواية البراء بن عازب -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بأكله بعد النهي، فدل أن النهي آخر الأمرين.

١٤٤ - روي ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بكسر القدور التي طبخوا فيها لحوم الحمر الإنسية، فلما التمسوا منه -صلى الله عليه وسلم- أن يهريقوا ما فيها ويغسلوها، أمرهم بذلك، فنسخ به الأمر بكسرها؛ لأن الأمر بالغسل جاء بعد ذلك؛ لذلك لا تكسر الأواني التي ألقي فيها شيء من النجس والمحرم، بل يلقى المحرم والنجس، ويغسل الإناء إذا كان ينتفع به و يطهره الغسل.

١٤٥ - ليس المحرَّمات من المطعومات محصورة في الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله، والمذكورة في الآية الكريمة؛ وذلك لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة تدل على وجود محرمات في الشريعة غير ما ذكر في الآية.

ولأن هذه الآية الكريمة اختلف أهل العلم في تأويلها، لكن إن أريد بها حصر المحرمات في الأربعة المذكورة، ونفي التحريم عمّا عداها في الشريعة مطلقاً، فإن الأظهر القول بنسخ هذا الحصر بالأحاديث التي جاء فيها ذكر محرمات كثيرة؛ لأن هذه الآية الكريمة نزلت بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة نزلت الشريعة بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها، منها لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير.

١٤٦ - إن الأمر بقتل الكلاب قد نسخ إلا الأسود البهيم، فإن الأمر بقتله لم ينسخ؛ لذلك لا تقتل الكلاب التي لا ضرر فيها إلا الأسود البهيم، فإنه يقتل؛ لأنه جاء أحاديث تدل على أن النهي عن قتل الكلاب جاء من النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الأمر بقتلها؛ لذلك يكون هذا النهي ناسخاً لذلك الأمر.

وإن الكلب الأسود كان يشمله الأمر بقتل الكلاب، فلما جاء النهي عن قتلها لم يشمله هذا النهي، بل جاء معه الأمر بقتله، فهو مستثنى من هذا النهي، كما يدل عليه حديث جابر، وعبد الله بن مغفل-رضي الله عنهما-. ولم يوجد بعد هذا الأمر ما يدل على النهي عن قتله.

١٤٧ - كانت الهجرة واجبة إلى المدينة وإلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لمن قدر عليها، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة؛ حيث تدل أحاديث كثيرة على قطع الهجرة من مكة بعد فتحها. فثبت بذلك نسخ الهجرة وقطعها من مكة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى المدينة، بعد فتح مكة.

١٤٨ - إن حديث بريدة -رضي الله عنه- يدل على أن من أسلم من المشركين فإنه يدعى إلى أن يتحول من داره إلى دار المسلمين، لكن هذا الحكم كان قبل فتح مكة، فلما فتح الله مكة على المسلمين، بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه لا هجرة بعد فتحها، فيكون حديث عائشة وابن عباس، ومجاشع-رضي الله عنهم-ناسخاً للتحول المذكور في حديث بريدة -رضي الله عنه-؛ لأنها بعده، وقد بين فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انقطاع الهجرة بعد فتح مكة.

١٤٩ - إن الهجرة لم تنقطع، ولم تنسخ، وإنها تجب على المسلم الذي يقيم في دار الحرب إذا استطاع الهجرة، ولم يتمكن من إظهار دينه، وذلك لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث كلها، وذلك بحمل ما يدل على انقطاع الهجرة، على انقطاعها من مكة، ومن كل بلد أسلم أهلها. وحمل ما يدل على عدم انقطاع الهجرة، على عدم انقطاعها من دار الكفر. وما دام الجمع بين الأدلة ممكناً لا يصار إلى ترك بعضها ولا إلى القول بالنسخ.

ولأن حديث جنادة بن أبي أمية -رضي الله عنه- يدل على أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهادُ» قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد قوله: «لا هجرة بعد الفتح» لذلك لما اختلف في ذلك بعض الصحابة، وفهموا منه انقطاع الهجرة مطلقاً، سأل أميةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فبين له النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لا تنقطع ما كان الجهاد، ويقاتل العدو.

وبهذا يبطل قول من قال بنسخ الهجرة مطلقاً؛ لأن حديث أمية -رضي الله عنه- هذا يدل تأخره على ما يخالفه.

١٥٠ - تدل آيات وأحاديث كثيرة على أن قتال الكفار لم يكن مشروعاً قبل الهجرة، بل كان الأمر بالكف، والصفح والإعراض عن المشركين والكافرين. ثم أذن الله بقتالهم من دون إيجاب، ثم أمر بقتالهم جميعاً وأوجب ذلك. فثبت منها نسخ الكف عن قتالهم، وكذلك الإذن غير الموجب لقتالهم، ووجب قتالهم جميعاً.

ولكن آية الكف عن القتال وكذلك الآيات التي فيها الأمر بالصبر والصفح والإعراض عن المشركين ليس نسخها نسخاً مطلقاً بمعنى رفع الحكم جملة وبالكلية، وعدم جواز العمل بها في أي وقت، بل إن حصل للمسلمين حالة ضعف في وقت أو في بلدة، بأن يكون حالهم كحال المسلمين في مكة، فلهم أن يعملوا بموجب تلك الآيات.

١٥١ - يجوز بدء قتال المشركين في الشهر الحرام؛ لأن الأدلة الدالة عليه بمجموعها تصلح للاحتجاج بها على نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام.

ولأن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة، وهو وإن كان محل نظر؛ لما في المسألة من الاختلاف إلا أنه يؤيد القول بالنسخ؛ لأنه كالممتنع أن يذهب أهل العلم كافة- إلا واحد أو اثنان- إلى القول بالنسخ، ولا يكون لقولهم مستند يدل عليه.

١٥٢ - إن من لم تبلغهم الدعوة فإنه يجب دعوتهم قبل القتال، ومن بلغتهم الدعوة فيباح قتالهم بلا تكرار الدعوة، لكن تستحب دعوتهم قبل بدء القتال؛ وبهذا القول يمكن أن يجمع به بين الأحاديث المختلفة الواردة في المسألة، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة فهو متعين.

لكن الأحاديث التي جاء فيها الأمر بالدعوة قبل القتال إن حملت على العموم- أي سواء من بلغته الدعوة ومن لم تبلغه-، وأريد بالأمر الوارد فيها الوجوب، فتكون ذلك منسوخاً؛ لتأخر الأحاديث التي تدل على جواز قتال المشركين الذين بلغتهم الدعوة قبل القتال.

<<  <  ج: ص:  >  >>