للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

١٧٧ - يجوز المساقاة بجزء من الثمر إذا كان مشاعاً، وأن القول بنسخه غير صحيح؛ وذلك لأن الأدلة الدالة عليه تدل على جواز المساقاة صراحة وهي غير محتملة لغير ذلك، بخلاف أدلة القول المخالف له؛ حيث إنها اختلف فيما يراد بها.

ولأن النسخ إنما يكون في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بعد موته، والمساقاة عمل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أهل خيبر حتى الموت، ثم عمل بها أبو بكر -رضي الله عنه- بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم عمر -رضي الله عنه- حتى أجلا اليهود من خيبر. وهذا مما يبطل قول من قال بأن ما يدل على جواز المساقاة قد نسخ.

١٧٨ - يجوز تلقيح النخل بلا خلاف، والأحاديث الصحيحة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ظنّ ظناً بأن ترك التلقيح قد يكون أنفع وأصلح، ولم يكن ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- على جهة كونه حكماً شرعياً، والمنسوخ لا بد أن يكون حكماً شرعياً، ولم يرد في هذه الأحاديث لفظ النهي، وما ورد فيه لفظ النهي ففيه ضعف؛ لذلك يكون القول بالنسخ فيها ضعيفاً.

١٧٩ - إن العمرى لمن وهبت له وإنها لا ترجع للمعطي؛ وذلك لأحاديث كثيرة و صحيحة تدل على أن العمرى لمن وهبت له مطلقاً، وأنها لا ترجع للمعطي، وأن اشتراط رجوعها للمعطي بعد موت الموهوب له شرط أبطله الشارع.

أما ادعاء نسخ الأحاديث التي تدل على عدم عودة العمرى للمعطي، فضعيف وغير صحيح؛ لأنه ليس عليه دليل، وليس مما ترك الناس العمل عليه، بل عمل الجمهور به.

١٨٠ - يجوز قبول الهدية من الكافرين والمشركين إذا لم يكن يترتب على ذلك أي ضرر أو مفسدة للإسلام أو المسلمين؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهدية من الكافرين، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أذن في قبولها منهم.

كما أن من تلك الأحاديث ما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهدية منهم في غزوة تبوك وبعدها. ويوجد مع بعض ما يدل على عدم قبول هداياهم أن ذلك كان قبل فتح مكة؛ لذلك فاحتمال أن تكون أحاديث المنع منسوخة بأحاديث الجواز احتمال راجح وقوي.

أما ادعاء نسخ ما يدل على جواز قبول هديا المشركين فضعيف وغير صحيح؛ وذلك لأن ما يدل على جواز قبول هداياهم أكثر وأصح مما يدل على المنع والنهي، ثم لا يوجد ما يدل على أن ما يدل على النهي متأخر على ما يدل على الجواز، حتى يكون ناسخاً له، بل القول بعكسه أولى وأقوى.

١٨١ - إن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين قد نسخ فلا وصية لهم؛ وذلك لأحاديث كثيرة تدل على أنه لا وصية لوارث، ويستفاد من بعضها أنه كان في وقت ما مشروعية الوصية لهم، ثم جاء النهي عن ذلك؛ لأن الله قد أعطى كل ذي حق حقه. وإذا كان ذلك كذلك فإن تلك الوصية المشروعة في وقت ما تكون منسوخة بالنهي اللاحق.

ولأن الظاهر من آية الوصية وجوب الوصية للوالدين والأقربين، وقد أجمع أهل العلم على أن وجوب الوصية للوالدين والأقربين منسوخ، وهذا لا يتأتى إلا بأن يكون المراد بالوالدين والأقربين في الآية الوالدان والأقربين الذين يرثون؛ لأنه لا يوجد ما يدل على وجوب الوصية لهم غير هذه الآية. وإذا كان المراد بها الوالدان والأقربين الوارثين فإن الوصية المذكورة فيها تكون منسوخة بآيات المواريث والأحاديث التي جاء فيها النهي عن الوصية للوارث، وبالإجماع الذي نقله غير واحد من أهل العلم.

١٨٢ - يجوز التوارث بالحلف والمعاقدة عند عدم وجود الأقارب وذوي الأرحام؛ لأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة جميعاً؛ وذلك بحمل ما يدل على نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة على ما إذا كان يوجد أحد من الأقارب وذوي الأرحام، وحمل ما يدل على التوارث به على ما إذا لم يوجد أحد منهم. والجمع بين الأدلة أولى من إلغاء بعضها. كما أن النسخ لا يصار إليه عند إمكان الجمع بين الأدلة.

ولأن التوارث به جاء فيه بعض الآثار، وعضد ذلك قضاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وهو مما يدل على أن التوارث بالحلف والمعاقدة لم ينسخ مطلقاً، بل يُتوارث به عند فقد الأقارب وذوي الأرحام، وإلا لما قضى به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

كما أنه يظهر من جمع الروايات أن حديث (لا حلف في الإسلام) متقدم على حديث تميم الداري الذي يدل على التوارث بالحلف عند عدم وجود الورثة، وهو مما يبطل عموم ادعاء النسخ.

١٨٣ - يدل غير ما حديث على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتق من أسلم من عبيد الكفار ولحق بالمسلمين قبل أن يسلم موالاه، فتكون هذه الأحاديث ناسخة لما يدل عليه حديث سلمان -رضي الله عنه-؛ حيث أسلم هو ولم يعتق حتى كاتب مولاه؛ لتأخرها عليه؛ لأن ما يدل عليه حديث سلمان -رضي الله عنه- كان قبل غزوة الخندق، وحديث ابن عباس -رضي الله عنه- والشعبي جاء فيه ذكر الطائف، وهو كان بعد فتح مكة. فثبت منه نسخ ما يدل عليه حديث سلمان -رضي الله عنه-، وأن العبد إذا أسلم قبل مولاه ولحق بالمسلمين أنه يصير حراً.

١٨٤ - لا يجوز بيع أمهات الأولاد؛ لأن الأدلة التي يُستدل بها لهذا القول من الأخبار المرفوعة وإن كان كل منها لا تخلو من مقال، إلا أنها بمجموعها تدل على أن لها أصلاً، ويقويها أثر عمر -رضي الله عنه-، وكذلك اتفاق الصحابة-رضي الله عنهم- على وفقها في زمنه.

ولأن القول بنسخ ما يدل على جواز بيعهن، له وجه، واحتمال قوي؛ لأن مع الأدلة التي تدل على عدم جواز بيعهن ما يدل على تأخرها على ما يدل على جواز بيعهن، فتكون ناسخة له، وهو ما جاء في إحدى طرق حديث جابر -رضي الله عنه- (ثم ذُكر لي أنه زجر عن بيعهن بعد ذلك)، ويقوي هذا اتفاق الصحابة-رضي الله عنهم-على عدم جواز البيع في عهد عمر -رضي الله عنه-؛ والإجماع لا ينسخ به، لكنه يدل على وجود ناسخ.

١٨٥ - يحرم نكاح من ذكر تحريمهن في الآيات القرآنية وما ثبت في الأحاديث النبوية الصحيحة؛ وذلك لأدلة كثيرة، تدل على ذلك، وأن تخصيص عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. بغيرها من الأدلة أولى من القول بالنسخ؛ لأنه لا تعارض بين العام و الخاص، فيعمل بالعام إلا فيما خص منه، وبذلك يجمع بين تلك الأدلة كلها، وما دام الجمع بين الأدلة ممكناً فإنه لا يصار معه إلى القول بالنسخ.

١٨٦ - إنه لا نكاح إلا بولي، وأنه بغير الولي باطل؛ لأن الأدلة الدالة على هذا القول أكثر وأقوى في الاستدلال، حتى إن منها ما هو نص صريح في المسألة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا نكاح إلا بولي» وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل». بخلاف أدلة الأقوال الأخرى.

ولأن هذا القول يمكن أن يجمع به بين الأدلة الواردة في المسألة، وذلك بأن تحمل الأدلة التي جاء فيها إضافة النكاح إلى النساء باعتبار أنهن محله، لا لأن لها أن تعقد على نفسها بغير إذن الولي، وأن تحمل الأدلة التي تدل بعمومها على جواز فعل المرأة في نفسها من غير شرط الوليّ، على اختيار الأزواج وغيره، دون عقد النكاح، وذلك للأحاديث الدالة على أن عقد النكاح من خصوصيات الأولياء.

وأن تحمل الأدلة التي تدل على الفرق بين الثيب والبكر وأن الثيب أحق بنفسها من وليها، على أنها أحق من وليها بالرضا، أي أنها لا تزوج حتى تنطق بالإذن بخلاف البكر فإن سكوتها إذنها؛ وذلك للأحاديث الدالة على اشتراط الوليّ.

فإذا حملت هذه الأدلة على هذه المعاني والاحتمالات فلا تعارض بينها وبين ما يدل على اشتراط الولي.

أما ادعاء نسخ ما يستدل منه على اشتراط الولاية في النكاح، وكذلك القول المقابل له فكلاهما ضعيفان وغير صحيحين؛ وذلك لإمكان الجمع بين الأدلة، وعدم وجود ما يدل على أن أدلة أحد القولين متأخرة على أدلة القول المقابل له. والنسخ لا بد فيه من دليل يدل على تأخر ما يقال بأنه الناسخ، على ما يقال بأنه المنسوخ.

١٨٧ - إن نكاح المتعة كان مباحاً ثم نسخ، فهو حرام إلى يوم القيامة؛ وذلك لأن كل مرة ثبت الإذن بإباحة المتعة فإنه جاء بعده النهي عنها، كما ذكر ذلك في حديث ابن مسعود، وسلمة بن الأكوع، وسبرة-رضي الله عنهم-. وهو دليل صريح على نسخها وتحريمها.

ولأن حديث سبرة، وعلي-رضي الله عنهما-جاء فيهما قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة»، فهما يدلان على نسخ المتعة وتأبيد تحريمها إلى يوم القيامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>