الحقيقة الثانية: أن هذا الذي ذكرناه من أن الوسطية هي الخيرية لا ينافي ما صدرنا به الكلام من كون الوسط هو الجزء بين طرفين؛ إذ قد ظهر بالاستقراء صحة هذا المعنى أيضًا، لكنا نقول -والله أعلم-: إن هذا المعنى للوسطية هو كالنتيجة لكون الإسلام وسطًا بالمعنى الأول؛ ذلك أن الله تعالى قد جعل شريعته الغراء هي الحق في مقابل أهواء البشر وضلالاتهم؛ كما قال تعالى لرسوله الكريم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨)} (١)، ولما كانت الأهواء متناقضة يميل بعضها إلى الغلو وبعضها إلى التقصير، فإن الحق الذي هو شريعة الله لا بد أن يكون وسطًا بين هذه الأهواء المتضاربة.
والمقصود من ذلك بيان أنه وإن كان الغالب أن يوجد في كل قضية طرفان مذمومان بينهما وسط ممدوح، إلا أن ذلك ليس بحتم لازم، ولا يقدح ذلك في فكرة الوسطية؛ لأن معناها الأصلي وهو الخيرية موجود على كل حال.
ولذلك فإن ما يقرره أهل الفلسفة من أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ليس صحيحًا على إطلاقه؛ فلئن صح أن تكون الشجاعة وسطًا بين الجبن والتهور، وأن يكون الكرم وسطًا بين الإسراف والبخل، إلى آخر ما ذكروه، فإن قاعدتهم لا تنطبق على مثل فضيلة الصدق وفضيلة العدل؛ فالصدق يقابله الكذب، ومثله العدل يقابله الظلم، وليس أي منهما وسطًا بين رذيلتين.
وربما يجد الناظر وسطا بين باطلين، ومع ذلك فليس هو بالحق بل هو