أقبل، فجلس على الكرسى، ونزع نعله من رجله، ووضع رجلا على رجل ثم قال:
يحضر أحمد بن حنبل. فأحضر، فلما وقف بين يديه وسلم عليه، قال له: يا أحمد تكلم ولا تخف. فقال أحمد: والله يا أمير المؤمنين، لقد دخلت عليك وما فى قلبى مثقال حبة من الفزع. فقال له المعتصم: ما تقول فى القرآن؟ فقال: كلام الله، قديم غير مخلوق، قال الله ﷿(٨:٩ ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ﴾) فقال له: عندك حجة غير هذا؟ فقال أحمد: نعم، يا أمير المؤمنين: قول الله ﷿(١:٥٥ ﴿الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾) ولم يقل «الرحمن خلق القرآن» وقوله ﷿(﴿يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾) ولم يقل «يس والقرآن المخلوق» فقال المعتصم: احبسوه، فحبس وتفرق الناس. فلما أصبحت قصدت الباب، فأدخل الناس، فدخلت معهم. فأقبل المعتصم وجلس على كرسيه، فقال:
هاتوا أحمد بن حنبل؛ فجئ به. فلما أن وقف بين يديه قال له المعتصم: كيف كنت يا أحمد فى محبسك البارحة؟ فقال: بخير، والحمد لله، إلا أنى رأيت يا أمير المؤمنين فى محبسك أمرا عجبا، قال له: وما رأيت؟ قال: قمت فى نصف الليل فتوضأت للصلاة، وصليت ركعتين. فقرأت فى ركعة ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ وفى الثانية ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ و ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ ثم جلست وتشهدت وسلمت. ثم قمت فكبرت وقرأت ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ﴾ وأردت أن أقرأ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ فلم أقدر، ثم اجتهدت أن أقرأ غير ذلك من القرآن فلم أقدر. فمددت عينى فى زاوية السجن، فإذا القرآن مسجّى ميتا، فغسلته وكفنته، وصليت عليه ودفنته. فقال له: ويلك يا أحمد، والقرآن يموت؟ فقال له أحمد: فأنت كذا تقول: إنه مخلوق. وكل مخلوق يموت. فقال المعتصم: قهرنا أحمد، قهرنا أحمد.
فقال ابن أبى دؤاد وبشر المريسى: اقتله، حتى نستريح منه. فقال: إنّي قد عاهدت الله أن لا أقتله بسيف ولا آمر بقتله بسيف، فقال له ابن أبى دؤاد: اضربه بالسياط. فقال: نعم. ثم قال: أحضروا الجلاّدين. فأحضروا. فقال المعتصم