وقالَ الأثرمُ: كانَ حَارِثٌ المُحَاسِبيُّ في عُرْسٍ لِقَوْمٍ، فَجَاءَ يَطَّلِعُ على النَّسَاءِ من فَوْقِ الدَّرابْزِين (١)، ثُمَّ ذَهَبَ يُخْرِجُهُ -يَعْني رأَسَهُ- فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قالَ: أَرَدْتُ أَن أَعتَبِرَ بالحُوْرِ العَيْنِ.
قال الأثْرَمُ -في أَثْنَاءِ كِتَابٍ إِلَى الثَّغْرِ-: أَعَاذَنَا اللهُ وإِيَّاكُم من كلِّ مُوبِقَةٍ، وأَنْقَذَنَا وإِيَّاكُمْ من كلِّ مُهْلِكَةٍ، وسَلَّمَنَا وإِيَّاكُمْ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ، ومَسَّكَنَا وإِيَّاكُمْ بِصَالِحِ مَا مَضَى عليه أَسْلَافُنَا وأَئِمَّتُنَا، كتابِي إِلَيْكُم -ونَحنُ في نِعَمٍ مُتَوَاصِلَةٍ-، نَسْأَلُ اللهَ تَمَامَهَا، نَرْغَبُ إِلَيْهِ في الزِّيادةِ مِنْ فَضْلِهِ، والعَوْنِ على بُلُوغِ رِضَاهُ، إِنَّ في كثيرٍ مِنَ الكلامِ فِتْنَةً، وبحَسْبِ الرَّجُلِ مَا بَلَغَ بِهِ من الكَلَامِ حَاجَتَهُ، ولَقَدْ حُكِيَ لنا أَنَّ فَضْلًا كَانَ يَتَلَاكَنُ في كَلَامِهِ، فإِنَّ في السُكُوتِ لَسَعةً، ورُبَّمَا كانَ من الأمُورِ ما يَطِيْقُ عَنُه السُّكُوتُ، وذلِكَ لِمَا أَوْجَبَ اللهُ مِنَ النَّصِيْحَةِ، ونَدَبَ العُلَمَاءُ مِنَ القِيَامِ بِهَا للخَاصَّةِ والعَامَّةِ؛ ولولَا ذلِكَ كانَ ما دَعَا إِلَيْه من الخُمُوْلِ أَصْوَبُ في دَهْرٍ قَلَّ فيه مَنْ يُستَرَاحُ إِلَيْهِ، ونَشَأَ فِيه مَنْ يُرْغَبُ عَنْهُ، ونَحنُ في موضعِ انقطَاعٍ عن الأمْصَارِ، فرُبمَا انتَهَى إِلَيْنَا الخَبَرُ الَّذي يُزْعِجُنَا، فَنَحْرَصُ على الصَّبْرِ، فَنَخَافُ وُجُوْبَ الحُجَّةِ من العِلْمِ.
ولَقَدْ تَبَيَّنَ عندَ أَهْلِ العِلْمِ عِظَمُ المُصِيْبَةِ بِمَا فَقَدْنَا من شَيْخِنَا ﵁، أبي عبدِ اللهِ أَحْمَدَ بنِ محمَّدِ بن حَنْبَلٍ إِمَامِنَا ومُعلِّمِنَا، ومُعلِّمِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مُنْذُ أَكْثر مِنْ ستِّين سَنَةً، وَمَوْتُ العالِمِ مُصْيَبةٌ لا تُجْبَرُ، وثُلْمَةُ لا تُسَدُّ،
(١) الدَّرابزينُ: التَّفاريجُ، فارسيٌّ معرَّبٌ. يُراجع: قصدُ السَّبيل (٢/ ١٨).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute