أما الإسلام فأمره واضح كله، ليس فيه سر مكتوم عن أحد، لا غُمة ينْبَهِم أمرها على التاريخ. ففي أيدي الناس تاريخه الصحيح، وهم يعلمون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم كالذي يعلمونه من أمر لوثر وملتن، وإنك لا تجد فيما كتبه عنه المؤرخون الأولون أساطير ولا أوهاماً ولا مستحيلات، وإذا عرض لك طرف من ذلك أمكنك تمييزه عن الحقائق التاريخية الراهنة، فليس لأحد هنا أن يخدع نفسه ولا أن يخدع غيره، والأمر كله واضح وضوح النهار، كأنه الشمس رأد الضحى، يتبين تحت أشعة نورها كل شيء. أهـ.
هذا كلام كاتب متحامل على الإسلام، لكنه لم يسعه إلا أن يقرر هذه الحقيقة التي كانت وراء محور هذه المحاضرة، إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم تاريخية لا ريب في ذلك ولا لبس، وقد ختم المؤلف المحاضرة الثالثة بقوله:
لقد ألف المسلمون في السيرة النبوية ألوف الكتب بل أكثر من ذلك، ولا يزالون ماضين في التأليف فيها، كل كتاب في السيرة المحمدية - مهما كان - لا ريب أنه أوضح بياناً وأوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتبه الناس في قصص النبيين وسيرهم - عليهم السلام -.
والكتب الأولى في السيرة المحمدية تلقاها عن أصحابها مئون وآلاف من تلاميذهم، وأتقنوها فهماً، وأحكموها فقهاً، ولم يتركوا فيها كلمة غامضة ولا عبارة معضلة إلا أوضحوا مبهمها وحلوا معضلها.
وأول كتاب عندنا في الحديث النبوي كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، وقد سمعه من مؤلفه ستمائة من تلاميذه فيهم الخلفاء والولاة والعلماء والفقهاء والأدباء والزهاد والنساك، والجامع الصحيح لأبي عبد الله بن إسماعيل البخاري تلقاه ستون ألفاً من أهل العلم عن تلميذ واحد من تلاميذه وه الإمام الفِرَبْرِي، فهل في العالم دين احتاط أهله مثل هذا الاحتياط واهتموا مثل هذا الاهتمام بكل ما يتعلق بأمر نبيهم وهدايته؟ وهل ألف في هذا الباب تأليف أكثر صحة وأعظم ثقة وتثبتاً؟ وهل نال مثل هذه الصحة التاريخية دين غيره؟ وهل حفظ التاريخ من تفاصيل حياة نبي من الأنبياء - عليهم السلام - مثل الذي حفظه من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم؟.