إن أعظم الناس لا يأذن لزوجه - وإن كانت له زوج واحدة - بأن تحدث الناس عن جميع ما تراه من تحليلها، وأن تعلن كل ما شاهدته من أحواله. لكن رسول الله كانت له في وقت واحد تسع زوجات، وكانت كل منهن في إذن من الرسول بأن تقول عنه للناس كل ما تراه منه في خلواته، وهُن في حِلٍّ من أن يخبرن الناس في وضح النهار كل ما رأين منه في ظلمة الليل، وأن يتحدثن في الساحات والمجامع بما يشاهدن منه في الحجرات، فهل عرفت الدنيا رجلاً كهذا الرجل يثق بنفسه كل هذه الثقة، ولا يخاف قالة السوء عنه من أحد لأنه أبعد الناس عن السوء.
إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه ولمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه لمن غاب عنها، وهذا الإذن عام لما يكون عنه في بيته وبين أهله وعياله، أو ما يصدر عنه في حلقته مع أصحابه، أو ما يقفون عليه من أعماله وأقواله، عند تعبده في مسجده، أو قيامه على منبره خطيباً، أو جهاده في ساحة الحرب تجاه أعدائه، وهو يسوِّي صفوف المجاهدين في سبيل الله، أو إذا خلا إلى ربه في حجرة منعزلة في بيته يعبد الله ويتضرع إليه فكان أزواجه وأصحابه يتحدثون جميعاً بكل ما يصدر عنه من قول أو عمل.
ثم إنه كان تجاه مسجده صُفَّة يأوي إليها فقراء الصحابة الذين لم تكن لهم بيوت يأوون إليها، فكانوا يتناوبون الخروج إلى ما بعد بنيان المدينة يحتطبون من أشجار الصحراء والجبل، ويبيعون مايأتون به ليقتاتوا جميعاً بثمنه، ولم يكن لسائرهم عمل غير صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم مجالسه ليحفظوا عنه ما يقول وما يعمل ثم يروونه للناس بعناية وأمانة، وقد بلغ عدد أهل الصَفَّة هؤلاء [في بعض الأحوال] سبعين رجلاً، كان منهم أبو هريرة الذي لم يكن صحابي أكثر منه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء السبعون يسرهم الله لحفظ كل ما يستطيعون حفظه مما يدخل في موضوع الحديث النبوي لا يفترون عن ذلك أناء الليل وأطراف النهار، وقد استمر الحال بهم على ذلك يومياً، وإذا ارتحل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة في غزوة أو حج كانوا معه، وكذلك غيرهم من الصحابة، حتى لم تخف عنهم خافية من أمره، ولم يغب عنهم معنى من معاني رسالته، ولما كان فتح مكة كان معه من أصحابه