فههنا نجد عبد الله بن حذافة يقبل رأس هرقل في مقابل أن يخلص أسرى المسلمين وهذا مقتضى قوة الإيمان على حسب قوة النفس، فكثيرون من الناس تمنعهم قوة النفس من الأخذ بالفتوى التي تناسب المقام وخاصة فيما يظنه الناس رخصة فيحبون أن يسجلوا مواقف بطولية لا تتحقق فيها مصلحة للإسلام والمسلمين، وما فعله عبد الله بن حذافة درس لهؤلاء فليس العبرة بقوة الموقف أو ضعفه بل العبرة في أن يكون المسلم عاملاً بحكم الشريعة في تعامله مع الكافرين والمسلمين، ملاحظاً أن في الشريعة فتوى أصلية وأخرى استثنائية وفيها رخصة وعزيمة والرخصة في محلها قد تكون أقوى من العزيمة، ولا يفطن لمثل هذه الدقائق إلا أصحاب البصيرة ممن اجتمع لهم علم وتقوى وتوفيق.
قال الذهبي:
الوليد بن مسلم: حدثنا أبو عمرو، ومالك بن أنس: أن أهل قيسارية أسروا ابن حذافة، فأمر به ملكهم، فجرب أشياء صبر عليها. ثم جعلوا له في بيتٍ معه الخمر ولحم الخنزير ثلاثاً لا يأكل، فأطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات. فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل وتشرب؟
قال: أما إن الضرورة كانت قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمتك بالإسلام. قال: فقبل رأسي، وأخلي لك مئة أسير. قال: أما هذا، فنعم. فقبل رأسه، فخلى له مئة، وخلى سبيله.
وقد روى ابن عائذ قصة ابن حذافة فقال: حدثنا الوليد بن محمد: أن ابن حذافة أسر. فذكر القصة مطولة، وفيها: أطلق له ثلاث مئة أسير، وأجازه بثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصفة، وثلاثين وصيفاً.
ولعل هذا الملك قد أسلم سراً. ويدل على ذلك مبالغته في إكرام ابن حذافة.
وكذا القول في هرقل إذ عرض على قومه الدخول في الدين، فلما خافهم قال: إنما كنت أختبر شدتكم في دينكم.