يَوْمٍ، وَهُوَ مَسْرُورٌ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ، أَلَم تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا، وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» وَفِي لَفْظٍ: «دَخَلَ قَائِفٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاهِدٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مُضْطَجِعَانِ، فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَعْجَبَهُ، وَأَخْبَرَ بِهِ عَائِشَةَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ؛ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ قَضَى بِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إجْمَاعًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ: اُنْظُرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ، كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ، فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا. وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا، جَمَالِيًّا، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» ، فَحَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي أَشْبَهَ مِنْهُمَا " وَقَوْلُهُ: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ إلَّا الْأَيْمَانُ، فَإِذَا انْتَفَى الْمَانِعُ؛ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ.
وَقَوْلُهُ حَمْشَ السَّاقَيْنِ - أَيْ: دَقِيقَهُمَا - وَالْجَعْدُ لَئِيمُ الْحَسَبِ، وَخَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مُمْتَلِئُهُمَا، وَكَذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، حِينَ رَأَى بِهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» . فَعَمِلَ بِالشَّبَهِ فِي حَجْبِ سَوْدَةَ عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، إذْ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّبَهِ فِيهِمَا، بَلْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزَمْعَةَ، وَقَالَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلَمْ يَعْمَلْ شَبَهُ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا لِشَبَهِهِ بِالْمَقْذُوفِ، قُلْنَا: إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي أَمَةِ ابْنِ زَمْعَةَ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ أَقْوَى، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا؛ لَا يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْهَا، إذَا خَلَتْ عَنْ الْمَعَارِضِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute