بَلْ الْعُلَمَاءُ كَانَتْ أَيْدِي الْحَنَابِلَةِ مَبْسُوطَةً فِي أَيَّامِ ابْنِ يُوسُفَ، وَكَانُوا يَسْتَطِيلُونَ بِالْبَغْيِ عَلَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْفُرُوعِ حَتَّى مَا يُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ الْجَهْرِ وَالْقُنُوتِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ، فَلَمَّا جَاءَتْ أَيَّامُ النَّظَّامِ، وَمَاتَ ابْنُ يُوسُفَ، وَزَالَتْ شَوْكَةُ الْحَنَابِلَةِ، اسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ اسْتِطَالَةَ السَّلَاطِينِ الظَّلَمَةِ، فَاسْتَعْدُوا عَلَيْهِمْ بِالسِّجْنِ، وَآذَوْا الْعَوَامَّ بِالسِّعَايَاتِ وَالْفُقَهَاءَ بِالنَّبْذِ بِالتَّجْسِيمِ.
قَالَ: فَتَدَبَّرْتُ أَمَرَ الْفَرِيقَيْنِ، فَإِذَا هُمْ لَمْ تَعْمَلْ بِهِمْ آدَابُ الْعِلْمِ، وَهَلْ هَذِهِ إلَّا أَفْعَالُ الْأَجْنَادِ يَصُولُونَ فِي دَوْلَتِهِمْ، وَيَلْزَمُونَ الْمَسَاجِدَ فِي بَطَالَتِهِمْ.
(وَمَنْ أَنْكَرَ) شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، (فَلِجَهْلِهِ بِمَقَامِ الْمُجْتَهِدِينَ) وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ أَسْهَرُوا أَجْفَانَهُمْ، وَبَذَلُوا جُهْدَهُمْ وَنَفَائِسَ أَوْقَاتِهِمْ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَهُمْ مَأْجُورُونَ لَا مَحَالَةَ أَخْطَئُوا أَوْ أَصَابُوا، وَمُتَّبِعُهُمْ نَاجٍ لِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَجَعَلَهُ شَرْعًا مُقَرَّرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا جَعَلَ الْحِلَّ فِي الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَتَحْرِيمَهَا عَلَى الْمُخْتَارِ حُكْمَيْنِ ثَابِتَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلْفَرِيقَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَيُّ شَيْءٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ.
(وَحُرِّمَ قَوْلٌ بِإِيجَابِ تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ) مِنْ الْأَئِمَّةِ (بِعَيْنِهِ) بِأَنْ تُلْتَزَمَ أَقْوَالُهُ فَقَطْ، (بَلْ قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (إنْ تَابَ) قَائِلُ ذَلِكَ، (وَإِلَّا قُتِلَ) .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ اتَّخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَلِّدُهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ بِحَيْثُ لَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا شَيْئًا، وَأَسْقَطَ أَقْوَالَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا، وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ، فَلْيُكَذِّبْنَا الْمُقَلِّدُونَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ الْوَخِيمَةَ فِي الْقُرُونِ الْفَضِيلَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute