ومعي شيء من الماء فوجدته فقلت أسقيك فأشار نعم فسمع رجلًا يتأوه فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أتشرب فقال نعم، فإذا آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وإيانا، وقال أبو زيد البسطامي: قدم علينا شاب من بلخ حاجا فقال لي ما حد الزهد عندكم فقلت إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ، قلت: فما الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا.
فالإيثار ضد الشح فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه والشحيح حريص على ما ليس بيده، فإذا حصل بيده شح عليه وبخل بإخراجه فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم والشح" الحديث، فالبخيل من أجاب داعي الشح والمؤثر من أجاب داعي الجود وكذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء وهو أفضل من سخاء البذل، قال عبد اللّه بن المبارك - رضي الله عنه -: سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل وهذا المنزل هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى منازله فإن المنازل ثلاثة إحداها: أن لا ينقصه البذل، ولا يصعب عليه. فهو منزلة السخاء، الثانية: أن يعطي الأكثر ويبقى له شيئًا أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود، الثالثة: أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه فهي مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهي استئثاره