قدر في نفسه أنه يعيش عشر سنين أو عشرين سنة فإنه يصير عبدا لهذه الأوصاف الذميمة فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفه. فهذا الحديث أصل في الفراغ عن الدنيا والزهد فيها والرغبة عنها بالاحتقار لها والقناعة فيها بالبلغة وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنا ومسكنا فيطمئن منها ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم. قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال:{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها، اهـ. قاله ابن رجب (١). لما كانت الدنيا دار مجاز إلى الآخرة فينبغي للمؤمن أن يكون فيها كالغريب المجتاز الذي لا يحدث نفسه في منزل نزله أو مرحلة حل فيها بأن يبني فيها دارا بل يكفيه فيها مبيت ليلة ثم إن الغريب نازع إلى الوطن ماد عينيه إلى أهله شاخص أمله إلى وقت الارتحال متى ينادى بالرحيل فيرتحل، فكلما قطع مرحلة هاج شوقه ينتظر نهاية المسافة فإذا بلغ آخر مرحلة قلق وضاع ذرعا فإذا وقع بصره على وطنه رق ودمعت عيناه من طول الغربة ومقاساة الشدة ثم بكى فرحا بوصوله إلى الوطن ونظره إلى الأحباب، قاله صاحب شرح مشارق الأنوار.