منه. فقال: الخلق والأمر لله ﷿. فمضيت به إلى حجرة فى آخر الدار، قد جلس الملك فيها منفردا، خيفة أن يجرى من أبى الحسين بادرة بكلام فيه غلظ، فتسير به الركبان. فلما دنوت من باب الحجرة وقفته: وقلت له: إياك أن تبرح من مكانك حتى أعود فأدخلك، وإذا سلمت فليكن بخشوع وخضوع. فدخلت لأستأذن له. فالتفت فإذا هو واقف إلى جانبى، قد حول وجهه نحو دار بختيار.
وقرأ (١٠٢:١١ ﴿وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)﴾ ثم حول وجهه نحو الملك، وقرأ (١٤:١٠ ﴿ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)﴾ وأخذ فى وعظه. فأتى بالعجب. فدمعت عين الملك. وما رأيت ذلك منه قط. وترك كمه على وجهه، فتراجع أبو الحسين فخرج، ومضى إلى حجرتى، فقال الملك: امض إلى بيت المال، وخذ ثلاثة آلاف درهم، وإلى خزانة الكسوة وخذ منها عشرة أثواب، وادفع الجميع إليه. فإن امتنع فقل: فرقها فى فقراء أصحابك. فإن قبلها فجئنى برأسه. فاشتد جزعى، وخشيت أن يكون هلاكه على يدى. ففعلت، وجئته بما أمر، وقلت له: قال لك: استعن بهذه الدراهم فى نفقتك، والبس هذه الثياب. فأبى. فقلت: فرقها فى أصحابك. فقال: أصحابه إلى هذا أفقر من أصحابى، فعدت فأخبرته. فقال:
الحمد لله الذى سلمنا منه، وسلمه منا، أو كما قال
فلنذكر الآن شذرة من كلامه:
ألا مصف لإخلاصه من شخصيته؟ ألا مصف لعقده من قصده؟ ألا غيور على صيانته من شهوته؟ ألا مستشعر لمراقبته فى خلوته؟ ألا لابس حلة ذلته؟ ألا فهم عنه ما أراد فى مخاطبته؟ ألا تائب من حوبته؟ ألا غيور على وده من بذلته؟ ألا باك على سآمته وفترته؟ ألا معتذر إلى ربه من تقصيره عن موافقته؟ ألا هارب إلى أمنه من مخافته؟ ألا باك من قلبه العليل؟ ألا نادب قبل الرحيل؟ ألا كاتم ضره والغليل؟ ألا ساع على أثر الدليل؟