. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[طرح التثريب]
قَالَ «مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ» وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى الْخَلْقِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ مَعَ هَذَا الْحَبْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُنْطِقْ فِيهِ بِحَرْفٍ تَصْدِيقًا لَهُ، أَوْ تَكْذِيبًا إنَّمَا ظَهَرَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الضَّحِكُ الْمُخَيِّلُ لِلرِّضَى مَرَّةً وَلِلتَّعَجُّبِ، وَالْإِنْكَارِ أُخْرَى، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلْوَجْهَيْنِ وَلَيْسَ فِيهَا لِلْأُصْبُعِ ذِكْرٌ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الرُّوَاةِ (تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ) ظَنٌّ وَحُسْبَانٌ، وَالْقَوْلُ فِيهِ ضَعْفٌ إذْ كَانَ لَا يَمْحَضُ شَهَادَتَهُ لِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَرُبَّمَا اُسْتُدِلَّ بِحُمْرَةِ اللَّوْنِ عَلَى الْخَجَلِ وَبِصُفْرَتِهِ عَلَى الْوَجَلِ مَعَ جَوَازِ كَوْنِ الْحُمْرَةِ لِتَهَيُّجِ دَمٍ، وَالصُّفْرَةِ لِثَوَرَانِ خَلْطٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالضَّحِكِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْجَسِيمِ غَيْرُ سَائِغٍ مَعَ تَكَافُؤِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرُ لَكَانَ مَقُولًا عَلَى نَوْعِ مَجَازٍ وَيَكُونُ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: ٦٧] أَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى طَيِّهَا وَسُهُولَةِ الْأَمْرِ فِي جَمْعِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَمَعَ شَيْئًا فِي كَفِّهِ فَاسْتَخَفَّ حَمْلُهُ فَلَمْ يُمْسِكْهُ بِجَمِيعِ كَفِّهِ لَكِنَّهُ نَقَلَهُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي الْأَمْرِ الشَّاقِّ إذَا أُضِيفَ إلَى الرَّجُلِ الْقَوِيِّ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهُ يَعْمَلُهُ بِخِنْصَرِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِظْهَارُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
الرُّمْحُ لَا أَمْلَأُ كَفِّي بِهِ
، يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ أَنْ يَجْمَعَ كَفَّهُ فَيَشْتَمِلَ بِهَا كُلِّهَا عَلَى الرُّمْحِ لَكِنْ يَطْعَنُ بِهِ خَلْسًا بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ قَالَ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ» فَهَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَفْظُهُ جَاءَ عَلَى وِفَاقِ الْآيَةِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَصَابِعِ وَتَقْسِيمِ الْخَلِيقَةِ عَلَى أَعْدَادِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَخْلِيطِ الْيَهُودِ وَتَحْرِيفِهِمْ وَأَنَّ ضَحِكَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ عَلَى مَعْنَى التَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَالنَّكِيرِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى.
وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ مُلَخَّصَةٍ (قُلْت) وَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْأَصَابِعِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ فِيهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَجَوُّزٍ وَتَقْرِيبٍ لِلْفَهْمِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى بِتَقْدِيرِ أَنْ يُصَدِّقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا الْمَذْهَبَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute