للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خاصة في الوداع ألهبت لوعته وذهبت بفؤاده، وخلفًا من موعد كان قبل ذلك وصرمًا وبينًا، وترائيًا وجلوة ما وشوقًا هيجه هذا الترائي، ثم ينعت من محاسن هذه الغانية، جيد الغزالة ذات الرشأ المتناعس وهي تراعي سربها وتلتفت عنه لتنظر إلى ولدها، والثغر الريان الذي لا يغيره الكرى وكأنه راح شجت بماء صاف من بئر لينة، ثم إنه بعد هذا الوصف يرمي إليها بطرفه وهي ظاعنة ويتبعها والركاب تهوى بها، ثم يلاحقها بخياله وقد اتلأب بها السير من مرحلة إلى مرحلة. وهو كأنه يرى بعينه هذه المراحل حين تحل وحين تستقل. ثم ما هو إلا أن يغلب على أمر نفسه فيبكي بدموع غزار، ويأخذ في تشبيه هذه الدموع بماء السانية، وينتقل من هذا التشبيه إلى وصف السانية، وهذا كما ترى من باب امتزاج النسيب بالخروج وسنذكره في موضعه إن شاء الله. والذي حوّره زهير، وهو يجوّد نموذجه، ليوحي إليك بتجربة خاصة قوله:

قامت تراءى بذي ضالٍ لتحزنني ... ولا محالة أن يشتاق من عشقا

فأنت بمجرد سماعه تتساءل، فلماذا تحزنه حين تتراءى. والجواب عن ذلك كما مر بك في معرض حديثنا عن هذا البيت آنفًا في باب طريقة القصيدة ووحدتها أنها لم تحزنه، ولكن أعجبته، ومنالها عزيز، وقلبه قد تعلق بها، فهذا هو الذي يحزنه. وكأنها إذ أرته من نفسها ما أرته، من انصلات جيد، وبريق ثغر، ورقة نظر، وخلجات ود، كل ذلك ما فعلته إلا لتحزنه. وهذه كما ترى المامة رقيقة لطيفة بمعنى التجربة الفردية، تلقي عليك ظلاً كثيفًا من حب الاستطلاع ورغبة الكشف، وتشعرك لفحا ما حرارة الإدراك لبعض ما كان. وزهير لا يعطيك أكثر من ذلك ولك إن شئت من بعد أن ترجع إلى شعره في أم أولى، فتحدس في نفسك، أهو يريد أم أوفي بعد أن صارمته وتبعها قلبه أم هو يريد غيرها أم هو نظرة ولقاءة وصورة مما لا يئل من مثله ذو إحساس مرهف ذو ذوق دقيق مع نبل في النفس وعفاف؟ ومهما يكن من شيء فإن الذي يصفه زهير ليس بشكل نموذجي بحت قصارى ما يرتفع به عن أن يكون مغسولاً كونه مجودًا ناصع الفصاحة - فليتأمل هذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>