للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويمدحه، ونحن نعلم أن أوسًا لم يعف عنه لما ظفر به أسيرًا إلا لما علمه من شاعريته وما أمله من مدحه؟

والحق أنه لم يمض على زمان امرئ القيس قليل حتى صار الشاعر ذا وضع خاص في المجتمع العربي، ربما تجاوز القبيلة إلى أطراف الجزيرة- كان في منزلة البطولة البيانية، التي تتيح له أن يغير كما يغير الفارس، وينطق بالحكمة والكلم الرهيب كما يفعل الكاهن، ويتغنى حرًا طليقًا كالصحراء وصعاليكها- ثم يظل بعد ذلك مرتفعًا عن منزلة العامة، خارجًا عن حلبة السادة، إلا أن تتفق له اتفاقًا في الفروسية الشخصية أو الرياسة الموروثة. على أن قول الشعر قد صار يحيف بمنزلة المرء في هذين البابين لما تواضع الناس عليه أن يسمحوا للشاعر بالحرية، ولكن يتقاضونه ثمنها في الإجحاف به والنزول بقدره. ومن أجل هذا نجد الرواة يذكرون أمن منزلة الشاعر قد نزلت عن منزلة الخطيب بعد أن كان فوقه، وأن الشعر قد صار يعد أدنى مروءة السرى وأسرى مروءة الدنى (١) وما أحسب أن قريشًا اتهمت النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر، إلا ليلهوا الناس عن خطره ويهونوا عليهم أمره. فما أفلحوا.

[بطولة الشاعر]

على أن المجتمع حين خس بقدر الشاعر، مقابل ما أتاح له من حرية القول المباشر، يمدح إن شاء، ويهجو إن شاء، وينسب إن شاء، ويفتن كما أراد- لم يضعه وضعًا خارجًا عن القانون الاجتماعي بالكلية، بحيث يسلم من المحاسبة على كل حال. بل فرض عليه حسابًا عسيرًا، يناقض مبدأ ما أقر له به من الحرية، كما يناقض ما اعتمده من الإزراء بقدره. وذلك أن مكان الشاعر من الإفصاح أتاح له منزلة من الشرف لا تنكر- فصار من حيث هو شاعر يعد في ساداتهم وإن لم يرفع إلى


(١) مقدمة شرح الحماسة للعرزوقي.

<<  <  ج: ص:  >  >>