ولا ينبغي بعد أن يصرفنا درك هذه الحقيقة عن أن نعترف لابن قتيبة بما وُفق إليه من دقة الحدس ونفاذ البصيرة. وإني لأعجب من بعض نقاد العصر إذ يتهمون ذلك العالم الناقد القدير بالسطحية وما إليها. ولعمري لو قد فطنوا إلى أن الرجل كان رأس مدرسة وكان يقرن بالجاحظ في أهل عصره، لقد تريثوا شيئًا قبل أن ينبروا إلى الحط من قدره. وأرى حقًا علي أن أذكر في هذا الموضع أن مقدمته للشعر والشعراء من أجود ما كتب في النقد في العربية، وما فئتنا -تلامذة الأدب- عالة على كثير من فصولها المفعمة القصار. وهذا بعد أوان نعود إلى ما كنا فيه.
[منزلة الشاعر]
أحسب الشاعر العربي كان أول أمره من قبيل الكهان. ألا تراهم يذكرون له صاحبًا من الجن كما للكهنة أصحاب من الجن يخطفون أخبار السماء ويلقونها إليهم؟ ثم خذ لفظ الشاعر نفسه- أليس اشتقاقه من قولهم شعر بمعنى عرف؟ من أن العّراف (وهذه صيغة المبالغة لقولك العارف) قد كان أحد كهان العرب، وكانوا يطلبون لديه الطب ويحتكمون إليه في كثير من النوازل. قال عروة بن حزام:
جعلت لعراف اليمامة حُكمه ... وعراف نجد إن هما شفياني
وقد كان الكهان يصطنعون لأنفسهم أحوالاً من الجذب، ، ويلقون كلامهم في أسجاع ورموز، وعلى طريقة لا أشك أنها كانت من طريقة الشعر في أول أمره. فهذا أيضًا مما يقوي عندك أن الشاعر كان أول أمره من قبيل الكهنة.
على أن الشاعر في طبيعة نفسه طلق حر. وللكهنة عبادات ورسوم وقيود وحدود. ثم إن الشاعر أصيل مصادر الإلهام يتغنى بالقيم ما راقت له، فمتى أنكرها، جعل يطلب غيرها ويتغنى به، مفصحًا في كل ذلك عن ذات نفسه. وهذا من طريقة