نتحدث هنا عن أثر المكان في اللغة الواحدة. ثم نذكر القارئ بما ذكرناه آنفًا من أن المكان ما هو إلا أحد أبعاد البيئة الثلاثة، وكل ما هو واقع تحت تأثيره فهو أيضًا واقع تحت تأثير الزمان والعصور والطبقات وما إلى ذلك. وأثر المكان في ألفاظ اللغة الواحدة أوضح من أن يدلل عليه، بحسبك برهانًا تعدد للهجات. مثًلا كلمة "حبوبة" في الشام معناها: "حبيبة، أو خطيبة"، وفي السودان معناها "جدة". ولو سأل شامي سودانيًا "ما عمر حبوبتك"؟ ربما أجاب: ثمانون أو تسعون، ولا يملك الشامي إلا أن يدهش إزاء هذا الجواب، ويعجب لهذا الذي يخطب من ذهب الدهر بكلها، وقد عير الشعراء من خطب النصف من نساء، وقالوا فيها:
وإن أتوك وقالوا إنها النصف ... فإن أفضل نصفيها الذي ذهبا
ومعاجم اللغة مفعمة بالاختلافات التي تحملها كلمة واحدة بين لهجات العرب الكثيرة، كلمة تخوف مثًلا معناها عند هذيل: التنقص، وقد وردت في التنزيل بهذا المعنى، وقد زعموا فيها زعموا أن مالك بن نويرة لم يقتله إلا جهل ضرار بن الأزور بلغة قريش، فقد أمره خالد أن يدفئ قتيله، فما كان منه إلا أن أبرده بردًا لا دفء بعدة إلا في نار جهنم (١).
ومن أبلغ آثار المكان على الكلمات "سوى اختلاف معانيها وتنوع مدلولاتها من موضع إلى موضوع"، ما يضيفه على الكلمة الواحدة من لون حسن أو لون قبيح
(١) لا أرى إلا أن سيدنا خالدًا رضي الله عنه قد أصاب صنع بمالك بن نوية وتزوجه امرأته من بعده. إذ قد كان رضي الله عنه رجل حرب وكان الظرف يطلب الشدة وإظهار البأس. ولم يك شيء بأدل على ذلك من أن يقتل رأس الفتنة ويسبي امرأته والله أعلم.