إن لم يكن شاهد هذه الأشياء. وليس مجرد السماع والقراءة بكاف أن ينطق المرء بمثل هذا الوصف. ولعل أبا العلاء قد حضر مجالس الشراب. وما أحسب امرأ يحضرها في ذلك الزمان يسلم من تعاطيها. وغناء أبي العلاء بالخمر ومناغاته لها شيء يواجه القارئ مواجهة صريحة في السقط والدرعيات واللزوميات ورسالة الغفران.
ومن أعجب أوصافه للخمر قوله:
البابلية باب كل بلية ... فتوقين هجوم ذاك الباب
جرت ملاحاة الصديق وهجره ... وأذى النديم وفرقة الأحباب
فانظر إلى هذه الدقة، وتأمل كيف وصل المعري بين تعري المحصنات بعد الشراب، وجسارة العبيد على ساداتهم. ولا تفوتنك ما في هذا من غرائب الطباق المعنوي، الذي هو صميم أسرار هذه الحياة. وبحسبنا هذا القدر عن أبي العلاء والخمر، ونكتفي بالتنبيه على أن هنا أيضًا تناقضا آخر، بين هذا الشوق إلى الخمر وهذا النفور منها.
[المعري وبغداد]
لو قد كتب على المعري أن يقيم حياته بالمعرة، ولا يزور بغداد، لربما كان وجد لنفسه من أصناف تناقضه مخرجا، ولعله كان يجد في سمعته بين أهل المعرة، وحنو والدته وأقاربه عليه، عزاء ودافعا إلى الرضا بقضاء الله، والقاعة في ظل الخمول، ولكننه أطاع طموحه الجامح ومضى إلى بغداد.
وقد قدم بغداد متفتح زهرة الآمال، صبا إلى التملي من نعيم الحياة، يجده في مجالس العلم، وحلقات الدرس، وفي السماع إلى القيان، والتسلل إلى غرائب