ولما كان المقصود من علم البلاغة هو إظهار الإعجاز ودلائله، فلا يخفى أن نعت أي شيء من كتاب الله أو أحاديث رسول الله، بأنه ذو جرس وذو دندنة وذو موسيقا، أو مشتمل على صفة من صفات الغناء، يدخل في باب الزندقة. ولهذا فضل العلماء أن يستعملوا كلمة "الفصاحة" المشتقة من البيان والظهور، على استعمال أي كلمة تشتم منها رائحة الترنم والنغم، لوصف الجانب اللفظي من أسلوب القرآن.
ونحن في هذا العصر لا ننظر إلى الغناء أو الرسم أو أي من الفنون التي كانت يتحرج أوائلها منها، نظرة شزر. ونقاد الإفرنج الذين نقتري سبيلهم في منهج البحث، ما زالوا -مذ كانوا- يعدون الغناء والموسيقا من الفنون الرفيعة. وأثر الدين المسيحي في هذا لا يخفي، لأن العبادات والطقوس الكنيسية تعتمد كثيرًا على الترنم والآلات الطرب، فلا غرو أن تنبه النقاد الغربيون إلى دقائق في ناحية الرنين اللفظي، لم ينتبه لها العسكري وأضرابه.
[فصاحة الكلمة والكلام]
عالج علماء البلاغة ناحية الجرس باسم الفصاحة والسلاسة والطلاوة، في غير ذلك من الألفاظ، كما قدمنا، في بابين مهمين: باب المعاني، وباب البديع. والذي قيل في باب المعاني أهم بكثير في نظرنا، مما قيل في باب البديع، لأن البديع كله يدور على إحصاء المحاسن اللفظية وتسميتها. وأما المعاني فيبحث في الأصول التي تلزم للكلام الجيد، ويحاول إبراز ماهيتها، وتخريج وجوهها المختلفة، على منهج منطقي فلسفي.
والمبحث الذي يهمنا في باب المعاني، هو تلك المقدمات التي يبدأ بها البلاغيون عن فصاحة الكلمة والكلام. وأنقلها هنا مختصرة عن الصفحات الأول من قسم البلاغة، من كتاب المرحوم حفني ناصف "قواعد اللغة العربية"، وهو كتاب معروف مقرر في مدارس مصر والسودان. قالوا: