للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حريصين على البديع، وتسمية أنواعه، والإصطلاح لها. وأحسب أن للدين يدًا في هذا، فقد كانت الموسيقا والغناء، لولا تعشق بعض العلية من الخلفاء والأمراء: وبعض أهل الذوق من المتصوفة لها، بالمرتبة السفلى، والحضيض الأوهد، في نظر الناس. وقد كان الفقهاء يختلفون في تحريم الغناء وتحليله، وهذا وحده قد كان كافيًا ليذب المتحرجين عنه، أخذ بالحديث: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات ... إلخ". ولا نعلم شريفًا شغل نفسه بالغناء، أيام دولته الكبرى بالحجاز على عهد بني أمية، اللهم إلا ما كان من أمر الوليد بن يزيد، ورأي المسلمين فيه معروف، وأخبار سماع عبد الله بن جعفر كانت تروى على أنها نادرة من النوادر، ومع هذا فلم يفت الرواة أن يخبرونا بما كان من لوم معاوية له في ذلك (١). ويذكر لنا صاحب الأغاني أن إسحاق بن إبراهيم كان من العلماء الفضلاء، ولكن الغناء قد غض من منزلته، حتى أنه لما طمع أن يؤذن له في لبس السواد مع القضاة، زجره المأمون عن ذلك (٢) وكان إبراهيم بن المهدي يكره أن يعد في المغنين، وقد هجاه دعبل أمر الهجاء، بصنعته هذه، حينما تولى الخلافة ببغداد، وذلك حيث يقول:

إن كان إبراهيم مضطلعًا بها ... فلتصلحن (٣) من بعده لمخارق

ولتصلحن من بعد ذاك لزلزلٍ ... ولتصلحن من بعده للمارق

أني يكون وليس ذاك بكائنٍ ... يرث الخلافة فاسق عن فاسق

ويذكر أبو الفرج أن الواثق كان يتعاطى الغناء، ويحذق جانبًا منه، إلا أنه كان يكتم ذلك أشد الكتمان (٤). فهذا كله يدلك على كراهة الأوائل للغناء والموسيقا، وتحرجهم منها.


(١) الأغاني (طبعة الساسي) ٤: ٣٥.
(٢) نفسه: ٥: ٥٦.
(٣) يريد الخلافة، يقول إن صلح لها إبراهيم، فان مخارقًا المغني وأصحابه صالحون لها.
(٤) راجع الأغاني -أخبار إسحاق الموصلي ٥: ٤٩ الخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>