وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن
وقال في آخرها، في نهج قصيدي واضح:
فيا نسمات الفجر أدي تحيتي ... إلى ذلك البرج المطل على النهر
ويا لمعات البرق إن جزت بالحمى ... فصوبي عليها بالنثار من القطر
عليها سلام من فؤاد متيم ... بها لا بربات القلائد والشذر
ولا برحت في الدهر وهي خوالد ... خلود الدراري والأوابد من شعري
مع ذلك لكأن البارودي، حتى في هذا النهج الجديد من حمل القصيدة على طريق المقالة الصحفية نجده ذا سبق وذا تجديد أصيل رحمه الله رحمته الواسعة وجادت ثراه شآبيب الغفران.
لعل القارئ الكريم قد تنبه لتأثير شعر المديح والأذكار على ما سماه السوربوني شعر إسماعيل صبري الغنائي الديني وأما ما نبه إليه من شبه بعض ما قال لامرتين بما قاله صبري، فقد تأسر الرومنسيون الأوربيون بالتصوف -تصوف المسلمين- وما يخرج لامرتين في باب التأثر من هذا النطاق. وقد سبق التنبيه على أن الرومنسيين إنما تأثروا في تقديسهم الطبيعة بالفيلسوف السوسري الفرنسي الرومنسي جان جاك روسو. وكان هذا كما قدمنا واضح التأثر بالصوفية وعلوم المسلمين.
المقالة والقصيدة عند شوقي وحافظ ومن بعد قليلاً
المقالة التي قصيدة في ظاهر شكلها والقصيدة التي هي مقالة في باطن أمرها- توشك أن تكون هي ما دار عليه أكثر الشعر الغنائي عند شوقي وحافظ. وسنرجع إلى قولنا الغنائي فنوضح مرادنا منه من بعد إن شاء الله.
كان شوقي طويل النفس، نظامًا ذا ملكة وكان يلتمس إصابة الرصانة ويتحرى أن يكون له نصيب وافر من حسن الديباجة، وكان يعلم مكان البارودي من جميع هذا فاتخذه نموذجًا غير أنه عمد إلى مذهب من التجديد أما عن ظن منه أن البارودي مع ملكته الضخمة قد قصر دونه لغلبة تقليد القدماء على أسلوبه، وتقيده بحدوده الضيقة وأما عن فطنة منه إلى أن ملكته هو دون البارودي، ولا يستطيع بلوغ مستوى ديباجته مهما يجتهد في سبيل ذلك، وإذن فليتلاف هذا النقص بما يعوضه من ضروب