للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الأوزان]

ثم يخيل إلي أن طور الأسجاع استمر زمنًا طويلاً، ثم دخله الوزن بفجاءة. وربما كان ذلك تحت تأثير أغاني الحيرة وما حولها. وقد بسطت رأيي في هذا المعنى في الجزء الثاني فليرجع إليه (١). ومما ذكرته هناك أن غناء الحيرة -فارسيًا كان أو غيره- ربما سبق له أن تأثر بأوزان الشعر اليوناني. فيكون الوزن العربي. على هذا القول، مقتبسًا في أصله من جذوة يونانية. وأريد هنا أن أقيد هذا القول بنوع من الاحتراس أراه ضروريًا جدًا. وهو أني لا أرى الوزن العربي قد كان أخذًا بحتًا واقتباسًا صرفًا من أوزان اليونانية أو من النماذج التي حذيت عليها في الغناء الفارسي القديم أو غيره.

ولكن الراجح في حدسي أن سماع الغناء المحذو على أوزان يونان أو أوزان مقتبسة من أصول يونانية (٢)، وقع في نفوس بعض أذكياء العرب موقعًا جعلهم يخترعون مبادئ البحور اختراعًا «تلقائيًا» مفاجئًا- وقل إن سماعهم لغناء القيان المحذو على أوزان يونان أثارهم وأحدث في أنفسهم إلهامًا فأشرقت حقيقة «البحور» عليهم بغتة، فأخذوا في مسالكها أيما أخذ.

ولا يغفلن القارئ الكريم عن أهمية ما أزعمه من عنصر المفاجأة في ظهور الوزن العربي ذي البحر والقافية. بعد أن سبقته دهور طويلة من أطوار النضج والنماء. فإن هذا الزعم يوشك أن يطابق ما ذكره محمد بن سلام الجمحي في طبقاته حيث قال (٣): «ولم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حادثة، وإنما قصدت القصائد وطول الشعر على عهد عبد المطلب وهاشم بن عبد


(١) راجع قبله ٢/ ٧٢٨.
(٢) نميل الآن إلى أن أصول الشعر الجاهلي مردها إلى العربية القدمى وأن هذه أصل أخذ منه اليونان وغيرهم إذ ثمود وعاد وجرهم وأميم كلهم أقدم من أمم أوروبا والله تعالى أعلم.
(٣) طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي، تحقيق محمود محمد شاكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>