للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصعلكة والفروسية]

ولقد أخلص لمحض الصعلكة جماعة من الشعراء إذا ضاق بهم مذهب الفروسية أو حدود القبلية أو ما شئت من أسباب أخر. وهؤلاء قد عمدوا إلى أن يضفوا على قيم الصعلكة بهاء أشد من بهاء قيم الفروسية وكأنما راموا أن يجعلوا منها مذهبًا هو فروسية الفروسية، وكأنهم كانوا ينشدون بصنيعهم هذا إلى أن يلفتوا الناس إلى طلاقة الحرية الصحراوية التي جعلت تُضيق مظاهر السيادة القبلية من نطاقها.

وعلى رأس هؤلاء تأبط شراء والشنفري. وقد كان الشنفري عندي أقرب إلى المثل الأعلى للصعلوك الشاعر، ولأنه قد كان كما قال:

طريد جنايات تياسرن لحمه ... عقيرته لأيهما حُم أول

وفي لامية العرب والتائية التي اختارها المفضل:

ألا أم عمرو أجمعت فاستقلت ... وما ودعت جيرانها إذ تولت

نجده قد عدد مآثر الصعلوك وفضائله كما كان يراها، من صبر على الشدائد ومنعة في النفس، وكرم مسرف واحتقار لعرض الدنيا، واستبسال للموت ورضا به إن جاء، وتحنن على النساء مع عفة في اللفظ، ونُبل في الضريبة. ويبدو أن الشنفري كان يفعل ما يقول بآية ما مدحه صاحبه تأبط شرًا فقال:

لكنما عولي إن كنت ذا عول ... على بصير بكسب الحمد سباق (١)

سباق غايات مجد في أرومته ... مُرجع الصوت هذا بين أرفاق


(١) أي أبكي حين أبكي على الماجد السابق ذي الصوت الخشن بين رفاقه، عاري الساقين، ظاهر عروق اليد يسير في الظلمة ذات المطر، وله شعر ضاف كالقوز من الرمل الذي بله الندى ولبده الساعون كأنما هو راع له ثلتان من معزى.

<<  <  ج: ص:  >  >>