الشوق والحنين من أعمق المعاني الإنسانية وأشدها لصوقًا وعلوقًا بالنفس. وحياة البداوة مما يزيدهما ويقويهما، لأنها أكثر ما تقوم على الفصيلة والأسرة والدار والوطن. وحياة الصحراء أشد إيغالاً في هذا المعنى من سائر أصناف الحياة البدوية لشسوعها وانجرادها وجدبها وقوة اتصال الذاكرة والوجد بمواضع الاستقرار فيها.
ولا يزال أخو الصحراء أبدًا يلتفت بقلبه إلى مكان إقامة تركه وراءه ويتطلع إلى آخر ينتظره من أمامه وما الدنيا كلها إلا معالم بين هذين الطرفين. قال البحتري:
سرنا وأنت مقيمة ولربما ... كان المقيم علاقة للسائر
وقال رحمه الله:
حنت قلوصي بالعراق وشاقها ... في ناجر برد الشأم وريفه
ومدافع الساجور حيث تقابلت ... في ضفتيه تلاعه وكهوفه
وهو ههنا إنما نزع من ريف إلى ريف، فكيف به لو قد نزع من شعب إلى شعب، ومن مُرتبع إلى مرتبع كما كان يفعل الجاهليون. وقد كان السفر للغارة وللمرعى يهيئ للمرء لقاء الأحبة والعدا. والخُيلس من متع العيش، والألوان المختلفات من مادة الذكريات، فيخزن ذلك كله في قلبه ويجعله ذخيرة للحياة وقيامًا. والتقاء الأحباء في المرابع كان يتيح من الأنس والشهوات واللحظات والساعات والبُكر والأصائل. ثم الافتراق بعد اللقاء كان يُودع في السرائر صبابات أصنافًا وأزوادًا ألفافًا من الذكرى والشوق.
والمسافر يكون رفيقه الذميل والراحلة وصُوى الطريق ومعالمه وامتداد القفر وما ينشأ فيه من جبال وسراب وأودية، وما يعن فيه من طير ووحش، وفي الليل يكون