اللزوميات، كانت خيرًا له على وجه الإجمال، وأعانته إلى حد بعيد على الإفصاح عما في نفسه إذ عن طريق هذه الالتزامات تمكن المعري أن يشغل شيطان الصناعة بتصد القوافي، ويكون حشو البيت كله نصيبًا سائغًا للتعبير الواضح السهل. والتأمل للزوميات يجد أن المعري قد وفق فيها إلى الوضوح بمقدار لم يوقف إلى مثله في سقط الزند أو الدرعيات. على أن هذا لا يدفع الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، من أن كل ما نظمه المعري في القوافي النادرة كالشين والذال والصاد متعمل متصنع. وانه خضع لشيطان اللغة والبديع في كثير من قصائده ذوات القوافي الذل، كالنون والدال والتاء.
[انتقام المعري]
كما أثابت بغداد -لا بل الدنيا جميعا- أبا العلاء المعري، على تفتح آماله وطموحه وكبريائه، إذلالا وخيبة ويأسا وإخفاقا، رأي هو أن يكيل لها صاعا بصاع وكان الله قد وهبه ذهنا حصيفا، وخيالا واسعا، ومقدرة خارقة على معرفة البشر وقد صرح هو بذلك في قوله في اللزوميات:
على أنني من اعرف الناس بالناس
وقد دله عقله وخبرته وحكمته ودهاؤه، إلى أن الاستيلاء على قلوب الناس، وإخضاعهم (إذ لم يتيسر عن سبيل الطموح والكبرياء) قد يتيسر له بادعاء المسكنة والخضوع والزهد. وقد صرح بشيء من هذا القبيل في قوله (السقط):
ذر الدنيا إذا لم يحظ منها ... وكن فيها كثيرا أو قليلا
وأصبح واحد الرجلين إما ... مليكاّ في المعاشر أو أبيلا
والأبيل: هو الناسك.
فعمد إلى التمسكن والتذلل والتزهد، يدفعه من أعماق قلبه إلى هذا المسلك