للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولكنه كان رجلا شاذا، يؤثر الجمع بين المتناقضات. وقد آثر هنا أن يجمع بين حب بغداد ومجتمعها، وهجر بغداد والإعراض عن المجتمع كله. فأضف هذا إلى ما ذكرناه آنفًا من أنواع تناقضه.

[المعري وشيطان اللغة]

كان المعري مقتدرا في لغة العرب، خبيرا بأسرارها، وكان من أخبر الناس بصياغة الكلام، وزخرفة البديع. وكان مشغوفًا بالأخبار والآثار والغريب. وتوفر له في بغداد مجتمع من الخاصة يسمع له، ويلتذ بما يقوله، وبعد الرجعة من بغداد، أتيح له جماعة من علية القراء، تتصل بينه وبينهم الرسائل، وجماعة من أفذاذ الطلاب يستريح إليهم من عناء الوحشة.

ثم كان هو بطبيعة عماه حساسا بالأصوات، ميالا إلى الترنم بها، والدندنة بأجراسها في ساعات الملال.

كل هذا جعله يحرص على الافتنان في البديع، ويحاول التأليف بينه وبين أسلوب الجزالة الذي لم يكن يسع أمثاله ممن عرفوا اللغة وخبروها أن يستعملوا غيره.

ثم إن المعري كان مفكرا دقيق الفكر، وحساساّ متلهب الإحساس، مشتعل العاطفة فهذا كان يدعوه إلى الوضوح كما قدمنا آنفًا، واتباع السهل من القول. وهنا وجد المعري نفسه أمام تناقض من أعنف ما لقيه في حياته الأدبية- أيتنكب سبيل البساطة التي يطلبها فكرة؟ لقد خيل إليه أن الجمع بين هذين النقيضين أمر ممكن في مبدأ حياته الفنية حين كان ينظم:

مغاني اللوى من شخصك اليوم أطلال

<<  <  ج: ص:  >  >>