للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله: "أخاف من سوء أعمالي وآمالي" يكشف لنا في لفظ واحد، هو قاله: "آمالي"، أسرارا عميقة مما اجتهد أبو العلاء دهره في إخفائه ألا تري أن قوله:

"من سوء أعمالي وآمالي" يوقع في خلدك أن هذا الرجل العنيف، لم يستطيع بالرغم من درعه الكثيفة، أن يذود عن نفسه أماني النفس وآمالها وتطلعها، كيما تنحدر من ربوتها إلى وادي الشهوات؟ أم لا يشعر بأن تركه للحيوان -مع أن فيه طلبا للمأثرة -لم يخل من تعمد من جانبه هو لكسر سورة النفس، وإضعاف نزوات الجسد، وإخضاع الرغبة في النساء، التي قد يعين هجر أن اللبن واللحم على تفليل شفرتها؟

لقد كان أبو العلاء رجلا جبارًا وقد أعانه تناقضه هذا المتعقد النواحي، المتنافر الجوانب، على الجبرية والسيطرة والاستحواذ على إكبار معاصريه، وكثير ممن بعدهم وهو بعد من العباقرة النادرين، الذين اتخذوا من إظهار الضعف والمسكنة والإعراض عن اللذات، سلاحا ماضيا، ينالون به اللذة الكبرى، ألا وهي قهر الناس، واغتصاب الإعجاب منهم، والظفر برهبتهم واحترامهم وقديما قال أبو تمام في المعتصم:

بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها ... تنال إلا على جسر من التعب

وقد استطاع المعري من علياء ملكه المبني على المسكنة والضعف، أن يهجو الأنبياء، ويذم الأمراء، ويسخر من المجتمع، ويحول بيته إلى كعبة يؤمها القصاد، ثم يعيش بعد ذلك الأمد الطويل، ويموت معززا مكرما، تختم على قبره مئتا ختمة وينشد عند جنازته أكثر من ثمانين شاعراّ وذلك لعمري فوز عظيم (١).

[المعري والجناس]

وبعد أيها القارئ الكريم، فقد كان من حق هذا الكلام الطويل الذي ذكرناه عن


(١) مر بي هذا في بعض تراجم أبي العلاء، وأحسبها ترجمة البديعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>