ما ربع مية معمورًا يطيف به ... غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظر من خدها الترب
ولا يخفى هنا أن أبا تمام إنما جسره على نسبة الخد إلى عمورية، ما كان جسر عليه من جعل ربعها مقابلا لربع مية
سماجة غنيت منا العيون بها ... عن كل حسنٍ بدا أو منظر عجب
وحسن منقلب تبدو عواقبه ... جاءت بشاشته عن سوء منقلب
وهكذا إلى آخر القصيدة.
[مذهب البحتري في الجناس]
لم يكن البحتري محتاجًا إلى أن يقوم "بدور" الرائد المكتشف، كما قد فعل أبو تمام. فقد كفاه صاحبهن والشعراء الذين سبقوا صاحبه أمثال مسلم، أو عاصروه مثل ديك الجن (وقد يأتي الحديث عنه عندما نعرض لمسألة الأساليب والبيان) هذا العناء. فلم يبق أمامه إلا التحسين والتزيين والتجويد، وإزالة خشونة الكشف والابتداء التي نجدها عند أبي تمام، وهي التي سماها ابن رشيق حزونة. وقد خُدع الآمدي عن حقيقة الأمر، فزعم أن البحتري قد حافظ على عمود الشعر، لأنه لم يستكره الاستعمارات، ويوغل في الجناسات. ولو قد تفطن قليلا لوجد أن البحتري لم يحافظ على عمود الشعر، إن كان مقصوده بعمود الشعر هو الإتيان بالكلام مستقيمًا خاليًا من زخرفة المعاني واللفظ على النحو العباسي، وأن كل الذي فعله هو الوصول بالزخرفة إلى سبيل دمثة ترف وسرف، وكلف بالمعادلات الرياضية، في كل ما يمكن أن يصدق عليه اسم الفن والإفصاح عن الجمال.