من بائيته المشهورة، وسنجعلها آخر ما نستشهد به الآن، في الحديث عن مذهب أبي تمام الجناسي، ثم نأمل أن نعود إلى الحديث عن زخرفة هذا الشاعر فيما بعد، عندما نتعرض لموضوع الأسلوب. قال يصف خراب عمورية:
كمبين حيطانها من فارس بطل ... قاني الذوائب من آني دم سرب
بسنة السيف والخطي من دمه ... لا سنة الدين والإسلام مختضب
والشاهد هنا في "سنة السيف" بمعنى طريقته وحده، وسنة الإسلام بمعنى الختان. وهذا جناس مجازي، لأن معنى الكلمة الأولى اختلف عن معنى الثانية، من أجل الاستعارة والاستعمال المجازي
لقد تركت أمير المؤمنين بها ... للنار يومًا ذليل الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحا ... يشله وسطها صبح من اللهب
ولا يخفى أن الطباق هنا مجازي. ولو قد أمكن أبا تمام إيجاد جناس مجازي هنا بأن يقول:"ليل من اللهب" لكان قد فعل، ليجعل الليل المجازي في عجز البيت بإزاء الليل الحقيقي في صدره، ولكنه لم يمكنه ذلك، فعدل إلى صبح مجازي، يجعله بإزاء الليل الحقيقي الذي في صدر البيت.
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ... عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة ... وظلمة من دخان في ضحا شحب
ولا يخفى هنا موضع الموازنة بين ظلمة الليل العاكفة، وظلمة الدخان.
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت ... والشمس واجبة من ذا ولم تجب
تصرح الدهر تصريح الغمام لها ... عن يوم هيجاء منها طاهر جنب
لم تطلع الشمس منهم يوم ذاك على ... بان باهل ولم تغرب على عزب