للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المودة]

أو الموضة، وهي كلمة إفرنجية يقابلها بالإنجليزية fashion و"المودة" بنت البيئة والتطوير الزمني. فهي على هذا فرع من ذوق العصر والمكان والطبقة. وهذا أوان تذكير القارئ بمكعب البيئة الذي وصفناه آنفّا. "فالمودة" تختلف من عصر إلى عصر في الطبقة الواحدة، ومن طبقة إلى طبقة في العصر الواحد، ومن بين فترة إلى فترة في العصر الواحد والطبقات المختلفة، كما أنها تختلف باختلاف الأمكنة في كل ذلك.

وأهم ظواهر "المودة"، أنها قصيرة العمر، وأنها مع ذلك لا تموت مرة واحدة- أعني كأنها شيء جديد. وإذا كسدت سوقها في مكان ما، فربما تنفق في مكان آخر. "والمودة" تتناول الحديث والألفاظ كما تتناول غير ذلك من مظاهر الحياة، كالملبس والمأكل والأغاني وضروب التسلية، ومختلف مذاهب السلوك العام والخاص. والأدباء، من ناثرين وناظمين، من أشد الخلق تأثرّا بعامل " المودة"، بالرغم مما يدعونه من الحرص على الخلود، والارتفاع فوق القيود المادية التي تمثلها عناصر البيئة المختلفة خذ هذه الألفاظ: القيثارة، الأزاهر، الأحلام، الظلال، الأشباح، الأحاسيس، المشاعر، البلبلة، الرفش، المعول، الآهات، الإشعاع، الهدهدة، يناغي، يناغي، ينغم، وهلم جرّا، ألا تجدها محببة إلى طائفة كبيرة من أدباء اليوم؟ أتحسب أن لها في ذواتها جرسا مفرحا؟ لا شك أن بعض التافهين يحسب ذلك، ممن قصاراهم في النقد أن يسهموا ويخفضوا من جفونهم، ويدعوا أنهم قد غرتهم سبحات نور الفن، ولكن مالنا وللتفاهمين. فالذي لا يقبل الجدل أن " المودة" هي التي حسنت هذه الكلمات.

وهنا نتساءل عن الأسباب التي تبعث "المودات" من حين إلى حين. والجواب عن هذا يطول، وربما أخرجنا عن غرض هذا الكتاب، وبحسبي أن أقول: إن الفراغ والنفاق والضعف البشري والزهو وطلب التنبجح، كل ذلك من بواعث "المودة"، وإن شئت أن تضيف إلى هذه المناقص شيئّا مما ذكره فرويد وتلاميذه،

فأنت في حل من ذلك. وفي دولة الأدب خاصة يكفي أن نشير هنا إلى أن تطور المذاهب الفنية، والآراء السياسية والاجتماعية، له أكبر أثر في بعث " المودات" الأدبية.

مثلّا المذهب الوراء الوقعي (١) في النون الجميلة، أدي إلى اختراع ألفاظ] أو استعمال ألفاظ [خاصة بين الفنانين، سرعان ما تلقفتها جمهرة الأدباء، وصارت "مودة" بينهم إلى حين. والأدباء مبتلون بادعاء المعرفة لما لا يحسنونه منذ أن وضع ابن قتيبة كتاب "أدب الكاتب"، وقبل ذلك بدهور. والمذهب المادي الجدلي في السياسية أدي الى اختراع ألفاظ خاصة، سرعان ما التقطها الأدباء، ولهجوا بها في نثرهم وشعرهم. والأدباء في الشرق أسرع تهافتّا إلى "المودات" من إخوانهم الغربيين، لفقدان الأصالة الفكرية بينهم في الكثير الغالب، هم يعوضون عن هذا الضعف باستحداث "المودات"،

إذ "المودة" أبدا تلبس لونّا براقاّ، يجعلها للناقد السطحي أشبه شيء بالأصالة.


(١) نستحل لأنفسنا هنا إدخال أل الموصولة على وراء تبعًا لمن قال:
من لا يزال راضيًا على المعه ... فهو حرٍ بعيشةٍ ذات سعه

<<  <  ج: ص:  >  >>