وبعد فحسبنا هذا القدر من الاستشهاد. وإنما أردنا لنبين به كيف أقبل النثر العربي من أصوله الجاهلية في «ما قبل الشعر» على القرآن فأخذ من مادته وشكله وأساليب جرسه فنشأ من ذلك أسلوب الخطب بجرسها وإيقاعها. ثم تلاهن عهد الرسائل بتقسيمها ذي النفس الخطابي في مذاهب عبد الحميد، والتريث الفلسفي في مذهب ابن المقفع، والإسماح شيئًا فشيئًا، مع الاحتفاظ بجوهر الإيقاع في إنشاء الوزراء من لدن أبي عبيد الله إلى آل برمك زمان الرشيد، وكل هذا كما ترى شديد الصلة «بما قبل الشعر» قوي النظر إلى القرآن، غير بعيد حقًا عن مذاهب الشاعرية في غير العربية.
[شاعرية النثر العربي]
ولعلك إذا تبينت هذا تبينت أيضًا أنه لم يكن في العربية نثر خالص النثرية حقًا، إلا ما كنا ألمعنا إليه من رسائل الأوائل القصار التي كان يراد بها التبيين بلفظ موجز وحتى هذه لم تكن تخلو من الموازنة والإيقاع متى جاوزت الجملتين والثلاث وربما قصدت إليهما قصدًا ككتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد:«أما بعد، فإن الممدوح مسبوب يومًا ما. وإن المسبوب ممدوح يومًا ما. وقد انتميت إلى منصب كما قال الأول:
رفعت فجاوزت السحاب وفوقه ... فما لك إلا مرقب الشمس مرقب
وقد ابتلى بحُسين زمانك دون الأزمان. وبلدك دون البلدان. ونكبت به من دون العمال، فأما أن تعتق. أو تعود عبدًا كما يُعبد العبد. والسلام» (١).
وإنما دخل النثر البحت الأجرد في نطاق العربية مع دخول التأليف المستفيض كالذي كان من كتب النحو واللغة والخراج الأولى. وكالذي تفرع من هؤلاء