قدمنا لك أن مذهب الشاعر أمر بين الغناء والخطابة والعرافة. وأن طريقته في البيان أن يصطفي السامع إلى نفسه، ثم إذا صار إلى حالة الجذب، طلب أن يمد من نطاقها حتى يدخل السامع فيه، ويشاركه ما يحس. ثم هو بعد ذلك يدفع بكلامه دُفعًا، حتى إذا بلغ نهاية ما تجيش به نفسه انقطع.
وهذه الطريقة في الأداء عسرة للغاية. إذ الشاعر أبدًا قريب من أن تختلط عليه مسالك التعبير فتخرج به عن حاق ما يجيش به صدره إلى آخر يظنه منه وليس منه. ولأمر ما قال الحطيئة:
الشعر صعب وعسير سُلمه
إذا ترقى فيه من لا يُحكمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يُعر به فيعجمه
وقد قدمنا لك أن الشاعر يبالغ في الموسيقا ويلتزم وزنًا وقافية وهلم جرا ليزين بذلك صراحته ويخفف وقعها على السامع ويدعوه ليشاركه في تجربتها. ونضيف على هذا الذي قدمناه، أن في التزاماته هذه أيضًا أدبًا وطريقة ومنهاجًا يؤمنه شيئًا من العثار ويرده إلى الإبانة عن ذات فؤاده في نفس واحد من غير اضطراب ولا تشويش. وقد ألمعنا إلى جانب من هذا المعنى بمعرض الحديث عن مدلولات المعاني التي تشير إليها الأوزان وما يصرن إليه من الانحصار في دائرة ما، عندما تنتظمهن القوافي.
ولكي يضمن الشاعر لنفسه تمام الأدب وكمال الطريقة والمنهاج -ثم أيضًا حرصًا منه على تزيين صراحته وإشراك السامع فيها- عمد إلى أسلوب خاص في الأداء، لم يحد عنه بحال، والتزمه كالتزامه للوزن وللقافية، وجعله مسلكًا للبيان كما