للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مذهب أبي تمام]

يقول ابن رشيق في باب المطبوع والمصنوع: "لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعًا منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد، لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، وأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقًا سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيرًا سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلمًا أسهل شعرًا من حبيب، وأقل تكلفًا، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة وأكثر منها. أهـ".

وعندي أن النقاد يقرنون اسم حبيب باسم مسلم، ضنًا عليه بفضيلة السبق. يدلنا على ذلك المناظرة بين صاحب البحتري وصاحب أبي تمام التي عقدها الامدي، فصاحب أبي تمام يزعم لشاعره مذهبًا، وصاحب البحتري ينكر عليه ذلك، ويحتج ببشار وأبي نواس ومسلم بن الوليد. ولا إنكار، لأن طلب الزخرف والصناعة قد بدأ منذ أيام بني أمية، وتعاطي منه أصناف بشار وأبي نواس والخليع أطرافًا، وتأنفوا كما يلائم أذواقهم وعقليتهم الهندسية "الأربسكية" (١) كما يقول الإفرنج. وقد كان أسلوب أبي التاهية الضعيف الركيك السوقي ثورة على هذه الأنافة، وتعتلبرًا (وإن كان تعبيرًا كاذبًا منافقًا (٢)، وشكرًا لأصحاب التراجم القدماء إذ قد كشفوا ذلك


(١) اقتراح على هذا التعريب الجيد الأستاذ العلامة محمد فريد أبو حديد رحمه الله.
(٢) ربما عن لنا أن نفيض عن الحديث عن أبي العتاهية في موضع آخر من هذا الكتاب. وخلاصة القول فيه أنه كان ذكيا، ولكنه كان فاقدًا للصدق، واتساع الخيال، والأصالة الصحيحة. وقد وقع في وهمه أن الأناقة التي كان يتكفلها أصحابه مرجعها إلى جزالة اللفظ وقوته. وقد أتى هنا من جهة شعوبيته وزندقته. ولو قد كان نظر بمنظار دقيق، لكان أدرك أن أناقة ألي نواس وبشار وأضرابهما ليس مصدرها طلب الجزالة، وإنما طلب الزخرف في اللفظ. ولا أنكر أنه قد تنبه إلى ناحية الزخرف عند معاصريه شيئًا ما. ولكنه حسب أن نقيضها هو التعبير عن الموت والزهد. مع أن نقيضها هو طلب البساطة والوضوح في العبارة، بغض النظر عن الموضوع. وقد كان السيد الحميري، معاصر بشار، أصدق حسا من أبي العتاهية، إذ قد أدرك من أسرار المشكلة ما لم يدركه هذا. وعيب السيد أنه حصر نفسه في موضوع التشيع، وسب الصحابة، وقد كانت عنده الملكة والأداء الجيد، لو قد تعاطى بذلك أصنافًا أخرى من الشعر.
أما ناحية النفاق في أبي العتاهية، فتبدو في أنه كان يعيش عيشة مخالفة لدعواه. ثم أنه لم يكن يتعدى في نصائحه الزهدية الأشياء المعروفة، التي عبر عنها الحسن البصري والمتصوفة فيما بعد، تعبيرًا أدق وأعمق وأوسع (راجع أخباره في الأغاني ٣: ١٢٢ - ١٧٦). هذا وراجع حديثنا عن أبي العتاهية الآتي من بعد في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>