تحدثت لك أيها القارئ الكريم في هذا الكتاب عن ماهية الجرس، وعما قاله العلماء عن قبح الألفاظ وحسنها ثم عمدت بعد ذلك إلى الحديث عن الانسجام في أنغام الشعر اللفظية والموسيقية كيف يتأتى؟ وحصرت ذلك كله في التكرار والتنويع، وفصلت لك فيهما الحديث على قدر استطاعتي من التحصيل والاستنباط والتأمل. ثم ربطت لك بين هذا كله، وبين الوزن والقوافي التي كنت قد تحدثت إليك عنها في الكتاب الأول.
وإلى هنا أكون قد استوفيت الكلام عن موسيقا الشعر اللفظية النغمية. على أني أذكرك أن هذا الاستيفاء محدود بمنهج البحث الذي نهجته من تقسيم صناعة الشعر جميعها إلى ثلاثة أبواب: هي النظم، والجرس اللفظي، والصياغة، وقد قدمت لك أن فصل هذه الأشياء بعضها عن بعض، إنما هو احتيال يحتاله الباحث، كيما يمكنه التحليل، كما يحتال الطبيب على الحيوان فيقتله، ثم يشرحه ميتاً ليستدل بما يراه من تركيب أعضائه على كيف يكون أداؤها وهي حية.
وآمل أن أضع بين يديك، عن قريب إن شاء الله، كتاباً ثالثاً في صياغة الشعر، من حيث صورها البيانية، وظواهرها الأسلوبية. وإن مد الله في الأجل، وقوي الساعد والقلب، وفتق الرأي والحجا، وأيد العزيمة والنية، استمررت أبحث في صناعة الشعر حتى أقدم لك في ذلك كتابة جامعة. وأتبع ذلك بتأريخ لصناعة النقد والنقاد، وعرض للجهد الصالح الذي بذلوه من لدن ابن سلام إلى ابن الأثير.
وبالله التوفيق، وعليه الاعتماد. وله الحمد وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا