الناقد أن يفرق كل التفرقة بين طبيعة أنواع الجناس التي وقعت في أشعار الجاهلية والصدر الأول، وطبيعة الجناس التي وقعت في أشعار المتأخرين من شعراء الإسلام. ولعله يمكن إجمال الفوارق جميعها في قولنا: إن القدماء كانوا يطلبون المجانسة من أجل الجرس الشعري وحده، ولذلك كانوا أحرص على مزاوجة الكلمات وتكرار الحروف والحركات، أما المحدثون فكانوا يطلبون المجانسة من أجل الزخرف الهندسي الذي كان رمزًا للجمال المحض عندهم، وكان هذا الزخرف الهندسي يقع على جرس الكلمة ومنظرها وموقعها في الرصف النظمي. ولعلنا إن تبينا حقيقة هذا الفرق، أن نتبين أيضًا أسباب ندرة الجناسات المتشابهة بحسب الأصول، والجناسات الموهمة والتامة عند القدماء. فهم قد كانوا لا يطلبونها، لحرصهم على غيرها. وإنما كانت تقع عندهم اتفاقًا كما ذكرنا آنفًا، وكما في قول الشنفري:
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا ... بريحانةٍ ريحت عشاءً وطلت
أو تعمدًا باستعمال الأعلام في معرض الذم أو المدح، كقول جرير:
ولا زال محبوسًا عن المجد حابس
وإنما نزعم أن مثل هذا متعمد لا اتفاقي، لأن الجرس الشعري ليس هو المطلوب طلبًا شديدًا هاهنا. وإنما عمد الشاعر إلى التظرف والتلاعب باسم المهجو نكاية به، وطنزًا عليه.
هذا، ولعل حرص المحدثين على الزخرفة والتوازن، أن يشرح لنا ما كادوا يجمعون عليه من تجنب الزحاف في الوزن على خلاف عادة الجاهليين. فالزحاف المحكم يزيد الجرس إحكامًا، ويكسبه زيادة في الدندنة، بما يضيف إليه من عنصر التنويع. ولكنه يقدح في هندسة البيت، ويخل من توازنه- والذي ركبت في نفسه نزعة المعادلة والتوازن ينفر منه ويأباه. وهكذا فعل المحدثون فيما المحدثون عدا أمثلة نادرة سنعرض لها إن شاء الله.