بها"، وفسر ابن رشيق قول ابن الرومي بتعليق ذكر فيه "أن المعنى الذي أراده وأشار إليه من جهة الطائي، إنما هو معنى الصنعة، كالتطبيق والتجنيس وما أشبههما" وأقول: إن ابن رشيق قد أصاب سويداء الحقيقة. ولا أظن بعد أن القارئ يخفي عليه موضع استشهادنا بهذا الخبر، فهو يدل على أن الشعراء أمثال ابن الرومي (وهو أعليائهم) كانوا يعدون الصناعة من حيز المعاني، فانظر كيف تمكن الزخرف من قلوب أولئك القوم؟
هذا، ولتمكن الزخرفة من النفوس، لم تكن الحملة التي شنها النقاد على أبي تمام إلا هواء، فقد صار مذهبه هو المذهب، وآضت طريقته هي الطريقة المتبعة، وعلى قريه سلك شعراء القرن الرابع ومن خلفوهم. ومن عجب أن النقاد أنفسهم حين نعوا الإفراط على أبي تمام، لم يؤاخذوا عليه البحتري، مع أنه لا يقل عن صاحبه إفراطًا. اللهم إلا ابن رشيق، فإنه قد تنبه لهذه الحقيقة، واعتذر له عن حبيب بأنه أسلس وأطبع. قال (١): "وقد كانا يطلبان الصنعة" يعني حبيبًا والبحتري، "ويولعان بها. فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعًا وكرهًا، يأتي للأشياء من بعد، يسلك منه دماثة وسهولة، مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، ور يظهر معه كلفة ولا مشقة". فهذا كلام منصف، إذ قد أثبت نزعة الزخرفة للرجلين، وفرق بينهما بأن أحدهما يذهب مذهب التجويد، والآخر يذهب مذهب الانسياب. ويقع التفضيل بينها بعد ذلك على حسب مزاج الناقد وهواه في هذين الاتجاهين اللذين لا يخلو الشعر منهما.
وإذ قد وضحت لنا هذه الحقيقة الهامة من أن الطائيين ومسلمًا وشعراء المحدثين إنما كان يدفعهم إلى الجناس دافع نفساني جمالي، أملته طبيعة مجتمعهم، وجب