الرمز والموسيقا، حريصًا في ذات الوقت على الإفصاح الصلت الصارح الذي تفرضه عليه بطولة الشاعر بحسب ما بيننا عن حقيقتها فيما مضى، كان أمر الوحدة في القصيدة العربية مستمدًا في جوهره من موسيقا القصيدة، ومن رمزيتها ومن المعاني الواضحة التي تطرقها ثم بعد ذلك وفوق ذلك كله من نفس الشاعر وحرارته، إذ القصيدة كلها حديث صريح بلسانه، وإفصاح جهير بمكنون نفسه، وروم بين إلى أن يشاركه السامع في تجربته.
ولاختلاط هذه العناصر المكونة لوحدة القصيدة العربية وتلاحمها تلاحمًا يبلغ بها أحيانًا إلى نوع من الأثيرية التي لا تكاد تُحس، خفي أمرها عن كثير من النقاد. أما عامة المستشرقين فجزموا بفقدانها. على أن منهم من لم يخف عنه وجودها، من هؤلاء المحقق البارع كارلوس يعقوب ليال، وإدراكه لوجود هذه الوحدة يستشفه القارئ من خلال تعليقه على قصائد المفضليات في مجلد ترجمته لها، وسنعرض لشيء من ذلك إن شاء الله. وكثير من كلام المستشرقين بعد، باطل حنبريت، عليه ظلال آراء العنصرية التي كانت نافقة في القرن التاسع عشر (١)، من ذلك مثلاً حديث كاتب مقالة الشعر في الموسوعة البريطانية في أخريات كلامه عن الشعر العربي. وأما المحدثون من نقادنا فالغالب عندهم أن الوحدة شيء مفقودة في القصيدة العربية وفي الذي سنذكره من بعد ما نأمُل أن يتلافى هذا الوهم.
وأما القدماء فلم يشكوا في الوحدة فيتحدثوا عنها، وإنما ألمعوا وأومأوا كعادتهم، كقولهم شعر له قِران وشعر ليس له قران، وكقولهم:
وشعر كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعي في القريض دخيل
وهذا باب نأمل أن نُفيض فيه من بعد إن شاء الله.
(١) صدر سنة ١٩٨٧ كتاب بعنوان أثينا السوداء لمارتن برنال يؤكد هذا المعنى الذي ظللنا نقول به منذ دهر تأكيدًا علميًا مفصلاً. BLACK ATHENA Martin Bernal vol. ١ - Lonoon ١٩٨٧.