وقد نبهنا في المرشد الجزء الأول على خطل هذا الرأي. إذ ليس ضربة لازب أن يكون كل الشعر إما دراما وإما ملحمة، وإما غناء- أجل كل الشعر في أصله وعامة مدلوله، فيه روح الغناء أو الروم إلى الغناء، ولكنه مع ذلك بيان قوي شديد التأثير وثيق الصلة بتأريخ الأمم وكيانها. وقد اختار الإفرنج منهجًا خاصًا في صياغة الشعر- أملته عليهم ظروف حضارتهم المنبثقة في أصلها بزعمهم من تراث اليونان والروم مضافًا إليهما أساطير الأمم الجرمانية وعاداتها وخرافاتها. وقد اختار العرب مذهبًا آخر مباينًا لمذهب الإفرنج كل المباينة. ولقد مر بك آنفًا فرق ما بين طريقة الأداء الشعري العربي في الوزن، والأداء الإفرنجي، وإنه لفرق عظيم، كما مر بك آنفًا إلماع منا إلى الإبلاغ المباشر، والثاني يتأمل ويتأتى ويفعل فعل الصانع.
ولقد قال أرسطو إن الشعر محاكاة للطبيعة وقد صدق من حيث إن صاحب الدراما يروم إنطاق الناس وتحريكهم كما يفعلون في الحياة، ولكن على نحو مبالغ فيه، وفي ضوء رسوم وطقوس خاصة. وكذلك يفعل صاحب الملحمة. يقص عليك خبر إبطال ويتتبع أحداث حياتهم وأقوالهم ويضفي حول ذلك أجواء فيها أيما محاكاة لما يقع في الحياة. والذي يقول الغنائي من الشعر، وهو ألصق أشعار الإفرنج وأسلافهم من يونان والروم بحاق الذات وأبعدها عن محض تقليد الطبيعة، أيضًا يعمد إلى النعت، دون التحدث عن نفسه هو نفسه. وفي هذا من محاكاة الطبيعة وتقليدها ما فيه.
أما الشاعر العربي فيذهب بالقصيدة مذهبًا بين الغناء والخطابة والعرافة، وهذا المذهب يحتمل أصنافًا من تقليد الطبيعة الذي يقع في الدراما والملحمة والنعت الغنائي ثم ينفرد بعد ذلك بوجدانية صرفة، مصدرها الرمز والموسيقا، وشكلية الجمال الأدائي. وسنمثل لهذا الذي نزعمه من بعد إن شاء الله.
هذا ولما كان مذهب الشاعر العربي موغلاً في الوجدانية، عظيم الاعتماد على