خذ على سبيل المثال، لتوضيح ما ذكرناه، قول البحتري:
واخضر موشي البرود وقد بدا ... منهن ديباج الخدود المذهب
وإن كان هذا خارجًا شيئًا عما نحن بصدده، ألا تجد أنه قد نظر إلى قول أبي تمام:
وثنوا على وشي الخدود صيانة ... وشي البرود بمسجف وممهد
فلأبي تمام كما ترى فضيلة السبق، إذ هيأ الاذهان لتقبل فكرة "وشي الخدود"، المقابلة بين زخرفة الجمال الطبيعة التي فيها، وزخرفة الجمال الصناعية التي في وشي البرود. ولكأنما كان أبو تمام يرمي بهذا التشبيه الغريب، إلى أن يفصح بتلك الحقيقة العنيفة التي كان يحسها عصره، من أن الجمال لا يكون إلا وشيا ومعادلات هندسة "أربسكية". وقد تعمد تكرار الوشي بالمعني المجازي والمعني الحقيقي، ليؤكد التشبيه ويثبته، ولكي لا يترك شكًا فيما خلفه من مقابلة معنوية.
ولم يكن البحتري محتاجًا الى هذا النحو من التوكيد. إذ قد فرغ أبو تمام منه.
ولم يبق أمامه هو، إلا أن يعمد إلى كلام أبي تمام نفسه، فيدمثه بتعريته من خشونة التأكيد المتمثلة في المجانسة المجازية، وإجراء القول على منهج يوهمك بأنه طبعي لا تصنيع في- وقد تأتى له ذلك في هذا المعني الذي تمثلنا به، باستبدال "وشي الخدود" بقوله "ديباج الخدود". وهاك أمثلة أخري منه تجري هذا المجرى:
كيف اهتديت وما اهتديت لمغمد ... في ليل عانة والثريا تجنب
عفت الرسوم وما عفت احشاؤه ... من عهد شوق ما يحول فيذهب
فكون الشاعر نفسه مغمدا في جفن هو ليل عانة، وكون الأحشاء تعفو كما تعفو الرسوم، كل هذا من باب الزخرفة المعنوية التي كان يحتاج أبو تمام في إبرازها إلى تكرار الألفاظ في هندسة من الجناس المجازي. واستغنى البحتري عن ذلك لسبق أبي تمام له.